السلطان هيثم في موسكو: الزيارة المناسبة في الوقت المناسب

ستسجل ذاكرة الأحداث أن يوم 22 أبريل 2025 شهد أول لقاء مباشر بين زعيمي سلطنة عمان وروسيا في تاريخ العلاقات بين البلدين. كان حفل الترحيب المنتظم في قاعة سانت جورج في قصر الكرملين الكبير إعلانا عن بداية مرحلة دشنها السلطان هيثم بن طارق آل سعيد والرئيس فلاديمير بوتين تليق بعراقة البلدين وبموقع كلّ منهما في الجغرافيا السياسية الإقليمية والعالمية، وبطموحاتهما المستقبلية التي لا يمكن فصلها عمّا يتميزان به من تراث حضاري وثقافي ثريّ ومؤثّر.
جاءت زيارة الدولة التاريخية التي أداها السلطان هيثم إلى موسكو لتشكل نقلة نوعية واستثنائية ليس في علاقات البلدين وحسب، وإنما في العلاقات بين روسيا والوطن العربي عموما. فليس من باب الصدفة أن يختار بوتين اللقاء الكبير للإعلان عن الاتجاه نحو تنظيم أول قمة روسية – عربية خلال العام الجاري.
اكتست الزيارة رمزية خاصة من الصعب تجاوزها دون التوقف عندها. تتميز قيادة عمان بالحكمة والرصانة ووضع الحسابات الدقيقة لكل حركة أو موقف. وعادة ما تكون الزيارات الرسمية التي يؤديها السلطان إلى هذا البلد أو ذلك إعلانا عن خصوصية وتميز العلاقة معه. ولا تتم إلا بعد دراسة مستفيضة لكل جوانبها وتحديد أهدافها وضمان نتائجها وما يمكن أن تحققه من إضافات مهمة وأبعاد إستراتيجية تسهم في توثيق العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون في مختلف المجالات.
◄ القيادة العمانية تستلهم نظرتها إلى العالم وقراءتها للأحداث وفهمها لما يدور حولها إقليميا ودوليا، من عبقرية التاريخ وخصوصية الجغرافيا ومن روح الدولة المتجذرة في عراقتها
من هذا المنطلق، أكد السّلطان هيثم أن مباحثاته مع الرئيس الروسي تركّزت على بناء علاقات متينة طيبة بين البلدين خلال الفترة الماضية، خاصة في ظل استعداد البلدين لإحياء الذكرى الأربعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما.
أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفييتي وسلطنة عمان في 26 سبتمبر 1985. وفي عام 1987، تم افتتاح السفارة السوفييتية في مسقط. في عام 1991 اعترفت سلطنة عمان رسميا بالاتحاد الروسي كخليفة للاتحاد السوفييتي، ومنذ ذلك التاريخ ما انفكت العلاقات البرلمانية بين البلدين تتطور، حيث يتبادل رئيسا غرفتي الجمعية الفيدرالية للاتحاد الروسي ومجلس الشورى العماني الزيارات والرسائل المكتوبة، كما حافظ البلدان على حوار سياسي رفيع المستوى بشكل منتظم وفق ما نص عليه البروتوكول المشترك بين وزارتي الخارجية الموقع في عام 1991. في 23 مارس 2023 أعلن عن أول اتصال ثنائي على أعلى مستوى في تاريخ العلاقات بين مسقط وموسكو جرى بين القائدين تم خلاله إجراء مراجعة شاملة لحالة وآفاق تطوير التعاون الثنائي لاسيما من حيث توسيع التعاون التجاري والاقتصادي وتنفيذ المشاريع المشتركة ذات المنفعة المتبادلة، بما في ذلك في قطاع النقل والخدمات اللوجستية.
في 7 ديسمبر 2023، التقى بوتين بولي عهد عمان ذي يزن بن هيثم على هامش منتدى الاستثمار “روسيا تنادي” المنعقد في موسكو. كانت هناك روح ايجابية خيمت على اللقاء، وكشفت عن مدى رغبة البلدين في تطوير العلاقات بينهما والنهوض بها إلى مستوى غير مسبوق، قال بوتين إنه يرى آفاقا جيدة لتطوير التعاون في قطاعي الطاقة والسياحة بين روسيا وسلطنة عمان، وأضاف أن “الرحلات الجوية المباشرة مفتوحة الآن بيننا وهي مثيرة للاهتمام وواعدة للغاية.”
الخطوات كانت تمهيدا لزيارة السلطان هيثم إلى موسكو وما تمثله من تأسيس رؤيوي وإستراتيجي لتعاون مثمر على مختلف الأصعدة تقريبا. تكللت المباحثات بين وفدي البلدين الصديقين في الكرملين بالتوقيع على 11 اتفاقية تعاون متنوعة في مجالات عديدة منها الاستثمارات والنقل والتجارة والاقتصاد والسياحة وإلغاء التأشيرة والإعلام وتدريب الكفاءات الدبلوماسية والبحوث العلمية والتعليم.
◄ المطلوب حاليا هو أن تتكاتف جهود العاقلين والحكماء والقادرين على الحل والربط لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء المختلفين
وبحسب البيان المشترك، فإن الجانبين عبرا عن ارتياحهما لما تحقّق من تقدّم في العلاقات الثّنائية خلال الفترة الماضية، وأكّدا على أهمية البناء على ما تم إنجازه والدّفع بعلاقات التّعاون والشّراكة إلى مستويات أرحب، كما ناقشا العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، وسبل تعزيز العلاقات الاقتصاديّة والتّجاريّة بين سلطنة عُمان وروسيا الاتّحاديّة في مختلف القطاعات التي تعتبر قاطرة للتنمية، وتعزيز فرص الاستثمار المشترك في مجالات متعدّدة، فضلًا عن تكثيف التّواصل وتبادل الزّيارات بين مختلف الجهات المعنية في البلدين لمتابعة برامج التّعاون المشترك.
الزيارة تناولت ملفات مهمة وحساسة على الصعيدين الإقليمي والدولي شملت النووي الإيراني والوضع في اليمن والملف السوري والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وغيرها من القضايا التي تمتلك مسقط رؤية واضحة لتحليل معطياتها وتفسير وقائعها وملامسة مسالك الحل التي يمكن أن تتصل بها وفق منهجها في قراءة الأحداث واستنباط الحلول.
في 19 مايو 2023 أكدت سلطنة عمان خلال مشاركتها في أعمال القمة العربية الثانية والثلاثين بمدينة جدة على أن الحياد أحد أبرز مبادئ الدبلوماسية العمانية حيث تمتنع عن الانحياز إلى طرف معين وتسعى دومًا للوقوف في منتصف الطريق، مما يمكّنها من القيام بدور الوسيط المحايد في العديد من النزاعات ويتميز نهجها السياسي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مع الحفاظ على احترام السيادة والحقوق الوطنية، ما يسهم في تعزيز الثقة بينها وبين الدول الأخرى. كما تعتبر أن الحوار والتفاوض من الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها الدبلوماسية العمانية لأنها تؤمن بأن الحلول السلمية هي السبيل الأمثل لحل النزاعات، وتسعى دومًا لتسهيل الحوار بين الأطراف المتنازعة وتعمل على تعزيز الروابط والتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة، مع التأكيد على أهمية التكامل وتجنب المواجهة وتقديم إسهامات قيّمة في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة والعالم.
يدرك المحللون أن للسلطنة نوعا فريدا من الأنظمة السياسية يتميز بقدرة فائقة على إدارة دبلوماسية الثقة والتأني وعدم الانجرار وراء الأحكام المسبقة أو المواقف الطارئة، وعلى انتهاج مبدأ الحوار في حل القضايا الإقليمية، إيمانا منها بأهمية الحلول السلمية والتعاون المتبادل لضمان استقرار المنطقة، وهو ما لا يتحقق عادة إلا بالحفاظ على علاقة متوازنة مع جميع الفرقاء الإقليميين والدوليين. ليس بالضرورة أن تكون على اتفاق مع الجميع ولكن المهم هو أن تحوز ثقتهم عندما تتفرق الطرق ويتسع الرتق على الراتق.
◄ زيارة الدولة التاريخية التي أداها السلطان هيثم إلى موسكو جاءت لتشكل نقلة نوعية واستثنائية ليس في علاقات البلدين وحسب، وإنما في العلاقات بين روسيا والوطن العربي عموما
أثناء الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت بنيويورك بتاريخ 24 سبتمبر من نفس العام، أكدت السلطنة على أنّ الحوار مبدأ ثابت ومنهج قوي في سياستها الخارجية، لما له من تأثير فعّال لتحقيق المصالحة والوفاق والسلام بين سائر الأطراف المتنازعة والتزامها الراسخ بمشاركة الأسرة الدولية في سعيها لبلوغ نظام عالمي سِلمي، قوامه العدل والإنصاف واحترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، داعية المجتمع الدولي إلى التمسك بمنظومة الأمم المتحدة في معالجة النزاعات وتسوية الصراعات، وانتهاج الحوار سبيلا للتوصل إلى الحلول السلمية، والتفاوض من أجل بناء عالم تسوده الحياة الكريمة ويعمّه الرخاء والاستقرار والأمن والسلام.
نظرا إلى مجريات الأحداث المحيطة، فإن زيارة الدولة التي أداها السلطان هيثم إلى موسكو كانت الزيارة المناسبة في الوقت المناسب، فالمطلوب حاليا هو أن تتكاتف جهود العاقلين والحكماء والقادرين على الحل والربط لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء المختلفين بما يحول دون تفاقم الأزمات واندلاع المزيد من الصراعات، ودون الدفع نحو حرب جديدة سيكون المنتصر فيها خاسرا، والنائي بنفسه عنها متضررا منها ولو بشكل غير مباشر.
تستلهم القيادة العمانية نظرتها إلى العالم وقراءتها للأحداث وفهمها لما يدور حولها إقليميا ودوليا، من عبقرية التاريخ وخصوصية الجغرافيا ومن روح الدولة المتجذرة في عراقتها والتي استطاعت دائما أن تحافظ على امتداداتها الثقافية والحضارية، وأن تنأى بنفسها عن الحروب والمواجهات وأن تكون فوق صراع الأيديولوجيات والشعارات، وأن تجعل من حيادها جسرا للتوصل بين من انقطعت بينهم الجسور، كما هو الحال بين الولايات المتحدة وإيران حاليا، أو في حالات تقوم فيها مسقط بالمهمة على خير وجه دون أن تعلن عنها، فهي تكتفي عادة بأن تكون سلطنة الخير والسلام والهدوء والسكينة.