السلطان الشرطي والولي المقاوم

المرتزقة الذين حملوا أسلحتهم ضد نظام دمشق لسنوات، وبين ليلة وضحاها استفاق السوريون عليهم وهم يحاربون في ليبيا تبين أنهم لم يكونوا يوما معارضة وطنية تحلم بدولة جديدة، وإنما كانوا بنادق يقاتل بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على حدوده الجنوبية، ليس دفاعا عن بلاده طبعا، وإنما لتثبيت موطئ قدم لمملكة الإخوان المسلمين شمال سوريا. وعندما استتبّ له الأمر وانتهت الحاجة للمرتزقة هناك، شُحِنوا في صناديق السلطان العثماني الجديد ليقاتلوا في ليبيا بذات عناوين التوسع والتمدد التي تشدّق بها أردوغان في عدوانه على سوريا.
بعيدا عن أهمية هؤلاء المرتزقة للثورة السورية، وتداعيات رحيلهم عن الميدان على مستقبل المعارضة السياسي، ثمة مقاربة لدورهم في خدمة السلطان العثماني والذي يستحق التأمل، ليس بحثا عن السبب فقط، وإنما أيضا مقارنة مع ذلك الدور الذي تمارسه الأذرع الإيرانية في المنطقة العربية خدمة للولي الفقيه. فالتشابه بين الدورين واضح جدا، ويسلط الضوء على توافق مشاريع الإسلام السياسي في المنطقة.
يطرح السلطان نفسه اليوم حاميا ومدافعا عن السوريين واليمنيين والليبيين والقطريين وغيرهم. يهدّد بالسلاح والقوة للذود عنهم ويسوّق لنفسه في كل بلد مبررات مختلفة، ولكنها جميعها تقوم على أساس واحد هو ذكريات الإمبراطورية العثمانية في المنطقة العربية. ليس بوصف ذلك التاريخ احتلالا، وإنما بوصفه محطة مشرقة في العصور الإسلامية. طبعا، كما يظن أردوغان ومن يدينون له بالولاء الأعمى من المرتزقة وفروع تنظيم الإخوان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
السلطان الشرطي هو تماما كما الولي المقاوم، كلاهما يستعبد الناس بوهم يسلبهم أحلامهم ويفسد عليهم حياتهم دون جدوى. يحوّلهم إلى وقود لحربه الدونكشوتية التي لا تحسم ضد خصومه المفترضين إلى الأبد، وإنما فقط تزيد من نفوذه وتوسع سيطرته على المساكين الذين يعيشون على أمل نصر في استعادة الأراضي المقدسة، أو إقامة إمبراطورية تعيد أمجاد عصور الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين.
عندما تنظر إلى السلطان أردوغان اليوم تراه بمثابة المرشد الأعلى لحركة الإخوان. سرق الدولة التركية لتصبح ما يشبه مملكة الولي الفقيه في إيران، وتحركت لديه نزعة السيطرة على عواصم عربية لصناعة محور الأخونة على غرار محور المقاومة. بسط نفوذه على الدوحة وطرابلس حاليا، ولكن عينيه ترنوان إلى صنعاء وتونس والقاهرة والخرطوم ومقديشو، وغيرها من الأماكن التي ينشط فيها الإخوان المسلمون.
هل تمكن قراءة زيارة رئيس مجلس النواب التونسي زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي إلى تركيا بغير هذا السياق؟ ألا يتشابه ما فعله الغنوشي مع حجّ وكلاء الولي في المنطقة إلى طهران لنيل مباركة خامنئي؟ ألا ينظر إلى زيارات رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج إلى أنقرة بذات الطريقة؟ ألا يعتبر أمير قطر اليوم بمثابة مسؤول تنظيم الإخوان في منطقة الخليج؟ ألا يفتح الإخوان أمام السلطان أردوغان بوابات الصومال واليمن ودول عربية أخرى، لعله يحيلها إلى إمارات وولايات تابعة له؟
اللافت أن مملكتي السلطان والولي تجتمعان على وئام كبير، وتتفقان في المصالح على طول الطريق وفي الملفات ذات الاهتمام المشترك. يتفق أردوغان مع خامنئي في أزمات سوريا واليمن وقطر وغيرها الكثير مما خفي عن المملكتين. أما في البلدان التي لا يجتمعان فيها، فهما لا يعملان ضد مصالح بعضهما، وكأنهما في هذا يخلقان نوعا من التكامل الذي يجب أن ينتهي إلى بسط نفوذ الإسلام السياسي على المنطقة.
لا تقوم هذه الفرضية على واحدة من نظريات المؤامرة. فهناك أمثلة كثيرة للتدليل على تلك العلاقة المشبوهة التي نشأت خلال الأعوام القليلة الماضية بين مملكتي الإخوان والخمينيين. نستدعي مثلا مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في العراق، وتقديم أردوغان واجب العزاء بـ”الشهيد” للرئيس حسن روحاني.
مثال آخر هو عدم تدخل أردوغان في أزمة لبنان لأنها منطقة إيرانية، في حين أن إيران لا تتدخل أبدا بالأزمة الليبية لأن تركيا مهتمة بها. في اليمن وكلاء الطرفين يجلسون على طاولة واحدة، وفي سوريا بدأت مناطق المعارضة تسقط الواحدة تلو الأخرى، مباشرة بعد أن وضع أردوغان يده بيد الإيرانيين والروس في جولات مفاوضات أستانة.
إذا لم يكن تكاملا وتنسيقا متعمدا، فالتناغم بين مشروعي الإسلام السياسي في المنطقة العربية، الإخوان والخمينيون، يأتي في سياق العنوان العريض المتمثل في هدف الطرفين بالهيمنة على دول المنطقة. لا يوجد ما يستدعي المواجهة بين السلطان والولي الفقيه، لأن كلاّ منهما مشغول بأولوياته حاليا. وبالتالي لا صالح لهما في فتح جبهات جديدة يمكن لخصومهما استغلالها. وحتى عندما تقود الضرورة إلى المواجهة كما حدث في سوريا بدايات الثورة وفي اليمن بعد سقوط علي عبدالله صالح، فيجب تقديم التنازلات لبعضهما، مهما كان الثمن وأيا كانت الوسيلة.
ثمة فارق في ظروف المشروعين حاليا. قبل بضعة أعوام كان الخمينيون يصافحون قادة العالم في اتفاق وصف بالتاريخي حينها، وها هم اليوم يعانون غضب العالم برمته على سياساتهم. أما مشروع الإخوان فهو يتمدد اليوم بهدوء وكأنه لا يخشى شيئا. صحيح أن حكم أردوغان في تركيا هو ربيع الإخوان الذي لم يحلموا به، ولكنه لن يستمر إلى الأبد. وحتى ذلك الوقت نحتاج إلى من يعدل مقولة الكاتب الفرنسي فيكتور هوغو عن الأتراك، فيكتب: من هنا مرّ أردوغان فأصبح كل شيء خرابا.