السفيرة.. ومدرسة الفساد في ليبيا

الفساد أصبح نظام عمل وسلوكا في مؤسسات الدولة الليبية وخلال 12 عاما تم صرف ما لا يقل عن 350 مليار دولار دون أن يكون لها أثر على البنى التحتية ورفاهية المجتمع.
الخميس 2023/10/12
الجراري.. ليست حالة استثنائية

لم تكن سفيرة ليبيا في بلجيكا آمال الجراري تعتقد أن الدنيا ستقوم ولن تقعد بسبب مكالمة هاتفية طلبت فيها من مساعدتها تمكينها من فاتورة مزورة تفوق قيمتها 200 ألف يورو لعلاج مريض ليبي “زائف” من مرض السرطان، فالسفيرة آمال الجراري تعلم أن مثل هذا التصرف سائد ورائج في مؤسسات الدولة وبين السفارات، ونهب المال العام بالنسبة إليها كما لغيرها حق مكتسب في زمن باتت فيه الثروة غنيمة المنتصرين في الحرب والمحتالين في السياسة والمتلاعبين بالشعارات والمتاجرين بالسيادة الوطنية واللاعبين على حبال التوازنات السياسية والاجتماعية في البلاد المنهكة بسبب أزمتها المعقدة.

ثم يبدو أن الجراري متعودة ولها سوابق في الفساد، وبالتالي تعتبر نفسها حالة طبيعية في ظل انتشار ظاهرة الفساد في البلاد، ومن الواضح أنها كانت ستحصل على المبلغ المطلوب بالتوافق مع أطراف تعرفها جيدا في وسط السلطة التنفيذية بطرابلس، لولا أن سكرتيرتها نديمة القريتلي وشت بها وروجت التسجيل على نطاق واسع للإيقاع بها لأسباب لا يعلمها إلا مكتب النائب العام الذي يتولى التحقيق في القضية

المتابعون للشأن الليبي يدركون أن الجراري ليست حالة استثنائية، وإنما هي جزء من واقع كارثي في الخارجية الليبية تميز خلال السنوات الماضية بكل أشكال الفساد.

◙ لو نظرنا إلى طبيعة الصراع القائم في ليبيا لاكتشفنا أنه بالأساس صراع على الثروة وعلى كيفية تقاسمها بين الفاسدين وبين الأسر النافذة التي تتقاسم السلطة والنفوذ وتتلاعب بمصالح الدولة والمجتمع

قبل أشهر أصدر مكتب النائب العام قرارات بإيداع العشرات من المسؤولين والموظفين الدبلوماسيين السجن من أجل تهم تتعلق بالاستيلاء على المال العام وتزوير الوثائق والتلاعب بالأرقام واستغلال المناصب للمصالح الخاصة، والإسراف في تمثيل البعثات الدبلوماسية، وقد طالت تلك التهم السفراء أنفسهم كما هو الحال بالنسبة إلى الجراري، والملاحق العسكرية والأمنية والصحية والثقافية، وأثبتت أن السبب الأول للفساد هو سياسة الترضيات والمجاملات في التعيينات والحسابات الغنائمية التي سادت خلال الأعوام الماضية في السفارات والقنصليات والبعثات المتخصصة بما في ذلك تعيين أمراء حرب وعناصر ميليشيات في مراكز حساسة.

والفساد في الخارجية والبعثات الدبلوماسية الليبية ليس معزولا عن الوضع القائم في مختلف أجهزة الدولة التي أصبحت منذ العام 2011 نهبا لكل من هب ودب، حيث شهدت المؤسسات الدبلوماسية إدماج اللصوص ومن كانوا في سجون النظام السابق بتهم تتعلق بالحق العام، وأصبحوا بجرة قلم أبطالا وثوارا ومناضلين، وأصبح من حق كل ميليشيا مسلحة أو أسرة مسيطرة أو قبيلة نافذة أن تفرض الأسماء التي تريد توظيفها في هذا البلد أو ذاك، لاسيما أن العمل في السلك الدبلوماسي يعني الراتب المرتفع بالعملة الصعبة والتقاعد المريح، وكل سفير أو قنصل أو ملحق أو موظف عادي أو مستشار، هو سفير لأسرته أو لقبيلته قبل أن يكون لبلده. وهكذا ترسخت فكرة المصلحة الشخصية والفئوية، واتسعت ظاهرة الفساد حتى أن بعض السفارات والقنصليات والبعثات الليبية بالخارج لم تلتزم بتوفير البيانات والمعلومات عن كيفية التصرف في الودائع، وقيام بعضها بالتصرف فيها في غير الأغراض المخصصة لها، دون حصولها على الموافقات اللازمة من الجهات المختصة، بالمخالفة لأحكام قانون النظام المالي للدولة.

أصبح الفساد نظام عمل وسلوكا في مؤسسات الدولة الليبية، وخلال 12 عاما مضت تم صرف ما لا يقل عن 350 مليار دولار دون أن يكون لها أثر على البنى التحتية أو على حياة الناس ورفاهية المجتمع، ودون أن تتحسن القطاعات الإستراتيجية المهمة كالصحة والتعليم والإسكان. فقط ظهرت علامات البذخ في حيز ما يسمى بالمنطقة الخضراء وسط العاصمة طرابلس، حيث يتم نقل الأموال بالعربات المجرورة بين أسواق الصرف والبنايات الجديدة المخصصة لتخزينها بدل المصارف، وحيث تسجل أغلى الماركات العالمية حضورها تحت إدارة أسماء وأسر بعينها باتت تتحكم في الاعتمادات المصرفية وأسعار الصرف وفي الخيارات المالية والاقتصادية للدولة، وحتى في علاقاتها الخارجية وتحالفاتها الإقليمية والدولية.

◙ المتابعون للشأن الليبي يدركون أن الجراري ليست حالة استثنائية، وإنما هي جزء من واقع كارثي في الخارجية الليبية تميز خلال السنوات الماضية بكل أشكال الفساد

في العام 2019 أثار المبعوث الأممي الأسبق غسان سلامة جدلا واسعا على أكثر من صعيد داخل ليبيا وخارجها عندما رأى أن ليبيا تحكمها طبقة سياسية لديها مستوى عال من الفساد ومن التقاتل على الكيكة، وأنها لا تهتم بمواطنيها التعساء الفقراء في بلد غني، وأن “الكثيرين متمسكون بمناصبهم لأنها تسمح لهم بنهب الثروة، وأنهم يستولون على المال العام ثم يهربونه إلى الخارج، وأن الخلاف الحقيقي بين الليبيين هو على الثروة وليس تنازعا بين الأيديولوجيات”، مردفا أن ليبيا تشهد ولادة مليونير جديد مع كل إطلالة صباح، وهو ما اقتنعت به خليفته الأميركية ستيفاني وليامز التي رأت بنفسها الفساد وهو يتجسد على الأرض في ملتقى الحوار السياسي وانتخاباته التي تحولت إلى سوق لبيع وشراء الأصوات بملايين الدولارات من أجل الدفع بالفئران إلى مخزن الجبن.

بحسب التقرير الذي نشرته منظمة الشفافية العالمية في يناير الماضي على موقعها الإلكتروني، احتلت دولة ليبيا المرتبة 171 من جملة 180 دولة حسب مؤشر مدركات الفساد لسنة 2022 لتكون بذلك ضمن الدول العشر الأكثر فسادا في العالم، وقد اشتركت في هذا المركز مع كلّ من بوروندي وغينيا الاستوائية وهايتي وكوريا الشمالية ولا تكاد تتقدم إلا على اليمن وفنزويلا وجنوب السودان وسوريا والصومال. الأمر لا يثير انزعاج القوى المستفيدة منه في الداخل والخارج بقدر ما يدفع نحو المزيد من تأجيل الحل السياسي النهائي للأزمة المتفاقمة في البلاد، ولو نظرنا إلى طبيعة الصراع القائم لاكتشفنا أنه بالأساس صراع على الثروة وعلى كيفية تقاسمها بين الفاسدين وبين الأسر النافذة التي تتقاسم السلطة والنفوذ وتتلاعب بمصالح الدولة والمجتمع من دون أدنى اعتبار للأغلبية الساحقة من الشعب المهموم والمكلوم والمحروم ولموقع البلاد ولدورها في المنطقة والعالم.

ملف قضية آمال الجراري ليس سوى نموذج من واقع مدرسة الفساد في مجتمع الريع الذي يستفيد منه بالأساس الفاسدون ولصوص المال العام في سياق إرث من ثقافة النهب الممنهج للمال السائب الذي يقال إنه يعلّم السرقة. وهو يعلمّها فعلا ويجعلها نشاطا يوميا بين أصحاب القرار والنفوذ، وخاصة أولئك الذين يرفعون شعار مكافحة الفساد وهم في الفساد غارقون.

8