السعودي عبدالله الغذامي شخصية العام الثقافية لجائزة الشيخ زايد للكتاب

لعل ما أفشل المشاريع الحداثية العربية من مشرق العالم العربي إلى مغربه، هو محاولة رموزها بلورة أفكارهم في قطيعة مع الصيرورة التاريخية والخصوصية الثقافية وحتى الجغرافية والاجتماعية، وهو ما تنبه له عدد من رواد الحداثة العربية اليوم في محاولة لخلق فكر ابن بيئته لا مسقط عليها، وهو ما تكرس مع الناقد والأكاديمي السعودي عبدالله الغذامي الذي تحتفي به جائزة الشيخ زايد للكتاب هذا العام.
أبوظبي - أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب، التي ينظّمها مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، عن منح لقب شخصية العام الثقافية لدورتها السادسة عشرة للأكاديمي والناقد الأدبي والثقافي السعودي عبدالله الغذّامي، تكريما لمسيرته الطويلة من العطاء، والتي أنجز خلالها الكثير من الدراسات والمشروعات البحثية المهمّة التي أَثَرْت الحِراك الثقافي إقليميا وعربيا.
وتُمنح الجائزة سنويا لشخصية اعتبارية أو طبيعية بارزة، سواء على المستوى العربي أو الدولي، بما تتميز به من إسهام واضح في إثراء الثقافة العربية إبداعا أو فكرا، على أن تتجسَّد في أعمالها أو نشاطاتها قيم الأصالة والتسامح والتعايش السِّلمي، وهو رهان رسخته الجائزة عبر تكريماتها التي طالت أهم رموز الثقافة والفكر والأدب من مختلف أنحاء العالم.
منحت الهيئة العلمية للجائزة ومجلس أمنائها الغذامي جائزة شخصية العام الثقافية نظير جهوده المتميزة في ميدان النقد الثقافي ودراسات المرأة والشعر والفكر النقدي التي بدأت منذ منتصف الثمانينات، والتي أحدثت نقلة نوعية في الخطاب النقدي العربي.
وأسهمت مؤلفات الغذامي مثل “الخطيئة والتكفير” “والنقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية” و”تشريح النصّ” و”الموقف من الحداثة” و”الكتابة ضدّ الكتابة” والمرأة واللغة”، وغيرها من الدراسات المتخصصة في بلورة حركة نقدية حول النقد الأدبي والنقد الثقافي، وفتح الآفاق نحو مناقشة التراث الشعري والإبداع العربي المعاصر وإعادة قراءته من منظور نقدي يتسم بالجدة والعمق والاختلاف.
قامة أدبية
يعتبر الغذامي واحدا من رواد الحداثة التي لا تؤمن بالقطيعة المعرفية بل تصدر عن إيمان بإعادة قراءة التراث بمنهجية نقدية تثريه وتلقي أضواء كاشفة على ما فيه من إبداع.
واستطاع الناقد عبر مسيرة طويلة جاوزت الخمسة عقود أن يؤسس حراكا معرفيا نوعيا لفت الأنظار من خلاله إلى أهمية النقد الثقافي، فتميّز في ميادين النظريات وحاور وتناول العديد من القضايا التي جعلت منه علما من أعلام النقد في المنطقة العربية، إذ يعكس اختيار الجائزة حرصها على الاحتفاء بهذه القامة، وتسليط الضوء على جهوده ومؤلفاته النوعية التي أثرى من خلالها المكتبة العربية، وسلّطت الضوء على العديد من القضايا المهمّة والمحورية في الحراك الثقافي، والفكري على حدّ السواء.

قدم الغذامي، وهو من مواليد مدينة عنيزة السعودية العام 1947 والذي عمل أستاذا للنقد والنظرية في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، بجامعة الملك سعود في الرياض، دراسات نقدية سلّط من خلالها الضوء على دراسات المرأة إذ تعدّ جهوده في هذا المجال فاتحة لدراسات النسوية في العالم العربي، ومرحلة تأسيسية للخطاب النقدي الثقافي العربي من خلال تكريس حضور النقد الثقافي في الساحة الأكاديمية العربية وتفعيل الخطاب النقدي على حدّ السواء.
وفي الوقت ذاته للغذامي امتدادات علمية ثقافية في مجالات النقد والفلسفة والفكر، حيث ألف عددا كبيرا من الكتب والدراسات في هذه الحقول المعرفية منها “مآلات الفلسفة.. من الفلسفة إلى النظرية”، و”القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة”.
وعن هذا الاختيار قال الأكاديمي والناقد علي بن تميم، أمين عام الجائزة، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية “تحتفي جائزة الشيخ زايد اليوم بقامة أدبية مرموقة لها تاريخها الطويل وانشغالاتها الدؤوبة التي سلّطت الضوء على أهمية النقد ومكانته في الحراك الثقافي بصفة عامة”.
وأضاف بن تميم “الغذامي يمتلك رؤية فذّة وسعة اطلاع فريدة استطاع من خلالها أن يعبر عن منجزات الثقافة العربية فتبحّر في علومها ونهل من نظرياتها، وقدّم العديد من الأطروحات النقدية الحديثة والمعاصرة التي أحاط من خلالها بالكثير من الجوانب المعرفية وسلّط الضوء على جملة من القضايا المهمّة والمعرفية بعين الناقد والمفكر الفيلسوف والأكاديمي الذي يرتبط بشكل وثيق بثقافة عربية أصيلة وينطلق منها ليحلّل ويبحث ويتمعّن عن قرب حتى بات علما أصيلا من أعلام النقد في عالمنا العربي”.
الفكر ابن بيئته
يعد الغذامي من خيرة الأصوات الثقافية العربية الراهنة، وهو أحد الفاعلين في المشهد السعودي الثقافي. ولعلّ جرأته النقدية جعلته عرضة لانتقادات من التقليديين والحداثيين معا.
كان يمكن للغذامي أن يواصل حياته منسجما مع التراكم الثقافي المشخّص أو ما يسمّيه بـ”النسق”، ولكنه اختار البدء في سعيه للتأثير في البيئة منذ أيامه الأولى في الجامعة، مؤسسا مع زملاء له مجلة “الآداب” وترأس قسم الإعلام واللغة العربية في جامعة جدة، وساهم في انطلاق مشاريع التعريب ومركز البحث العلمي، قبل أن يغادر إلى الرياض في العام 1988.
وتواصل مشروع الغذامي بتقديم منهجه لا في قراءة النص الأدبي ونقده فحسب، ولكن أيضا في قراءة الواقع باعتباره نصا هو الآخر، متنقلا من كتاب إلى آخر، مرسخا لفكر متوازن يقر بخصوصية المكان والبيئة وينادي بضرورة تركيز فكر نقدي له حضوره في محيطه لا مسقطا ومركبا، فالفكر عنصر هام في بناء المجتمع لا مجرد تهويمات أو ترجمات مفاهيمية تتداولها النخبة. ولكنه وقبل مغادرته جدة، كان قد اختار لأول كتبه عنوانا شديد الإثارة في بيئة ثقافية يصعب اختراق تضاريسها، فكان كتابه النقدي الأول “الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية” الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1985، والذي شكّل صدمة كبرى لدى قراء النقد الأدبي من جهة ولدى القراء الأكثر بساطة من جهة أخرى.
وللغذامي نظرة مختلفة إلى العالم، وإلى الشرق بشكل خاص، ترى الحداثة مرتبطة بالمكان وشروطه، وليست ضرورة حتمية أن نتسلمها كما هي، وهو ما يؤكده في قوله “إننا جربنا حداثة النفط، وحداثة اللباس فلم نعد نرتدي ما كان الرسول يرتديه، وحداثة التصنيع والتكنولوجيا ومظاهر الحياة، فبقي أن نجرّب حداثة الفكر”. ويواصل الغذامي تفكيكه للمشهد السعودي من حوله أولا، والعربي تاليا، ومن ثم العالمي مازجا بين عالمي الأدب والفكر في مشروع نقد ثقافي منفتح وابن بيئته.
ولا يبدو الغذامي مثقفا ناقدا سعوديا فقط، إذا ما نظرنا إلى حجم واتساع الهمّ الفكري والنقدي الذي يتصدى له، ولذلك ينتظر من منتقديه ألا يضيقوا على أطروحاته ويقزموها لتكون على قياس السوق الثقافية المحلية، والربط الذي يجريه على الدوام مع النطاقات الأوسع، وهو ما تؤكده مؤلفاته الأخيرة في فترة ما بات يطلق عليه “زمن كورونا” والأزمة الصحية التي أكدت الترابط الكبير والمصير المشترك للإنسانية.
ويركز على مسألة “الفلسفة والأسئلة الكبرى”، كاشفا من خلالها علة مزمنة عند بعض الفلاسفة وهي الهروب من نقاش الأسئلة الكبرى أو تجاوز القضايا الفكرية الشائكة والتركيز على تفاصيلها أو بعض تفاصيلها، خاصة الأسئلة الوجودية، وهي ممارسة مماثلة لعرابي العلوم البحتة المعاصرين.
وعبر مؤلفات عديدة يغوص الغذامي في الفلسفة والمنطق على غرار كتابه الصادر مؤخرا بعنوان “مآلات الفلسفة.. من الفلسفة إلى النظرية”، ويشتبك فيه مع واقع الفلسفة في العالم فيناقش “حال الفلسفة اليوم” إذ يبشر بأن الفلسفة لها موطئ قدم في الحاضر وينتصر لها ليس فقط من خصومها كستيفن هوكينج الذي أقر موتها، بل حتى من بعض المحسوبين عليها خاصة باشلار ورورتي، وإن اختلف دورها وتعريفها وحجم تأثيرها، فالفلسفة برأيه لم تعد أم العلوم بل صارت علما معينا للعلوم يردفها بالبعد الإنساني ويركز على التفكير الناقد، وهو ما يتطلب تبسيط الفلسفة وتوضيحها للفرد والمجتمع، بل وينبغي أن تخرج الفلسفة من جلباب دولة هيغل العميقة أي عصرنة الفلسفة.