السعودية تستغل تراثها وانفتاحها على العصر لتصبح مركزا ثقافيا

تشهد السعودية في السنوات الأخيرة تطورا كبيرا في المجاليْن الثقافي والفني، يركز على تحقيق معادلة التوازن بين الإرث العريق والانفتاح على العالم وآخر المستجدات، وهو ما أثمر بشكل واضح في العديد من القطاعات الثقافية والفنية كالموسيقى والأدب والمسرح والسينما والفنون التشكيلية، وفي التظاهرات والمعارض والمهرجانات والمبادرات التي انتشرت في عموم البلاد، الأمر الذي يؤكد المستقبل الثقافي القائم على رؤية السعودية 2030.
الرياض - تزخر المملكة العربية السعودية بالمكونات الثقافية والحضارية الأصيلة، المتشعبة في رحاب أراضيها والسارية في آداب وعادات مجتمعها، حيث تمتلئ جهاتها الأربع بالتراث الغني والتقاليد العريقة والكنوز الثقافية، وفي تنوعاتها من الصحاري الذهبية وموانئ اللؤلؤ والحقول الخضراء والأودية الغائرة، تتدفق الكثير من العناصر والمنجزات الثقافية التي تضم مختلف الفنون والآداب والأفكار والعلوم.
وامتزج هذا التنوع الثقافي في نسيج موحد، حيث تولت وزارة الثقافة السعودية زمام المسؤولية منذ نشأتها قبل خمسة أعوام، بإنارة ثقافة الموطن السعودي وتثمين كل عناصر محضن الحضارات، وتتبعت جذوره الراسخة في التاريخ، مفعّلة عناصر الثقافة السعودية ومدونة فصلا جديدا يساهم في تثمين الثقافة وتجميع الجهود لصيانتها ودعمها بكل أصنافها.
لكل عام اسم
تأسست وزارة الثقافة السعودية في الثاني من يونيو سنة 2018، بموجب أمر ملكي، وتولى حقيبتها الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود. وما لبثت أن أرست هذه الجهة الفتية قواعد رؤيتها وتوجهاتها، في محفل أقامته في مارس 2019؛ انطلاقا من حرصها على حفظ التراث التاريخي للمملكة، وبناء مستقبل ثقافي غنيّ، كاشفة عن أهدافها المركّزة، وهي: الثقافة بوصفها نمط حياة، والثقافة من أجل النمو الاقتصادي، والثقافة من أجل تعزيز مكانة المملكة الدولية.
وكشفت الوزارة عن إستراتيجيتها لإعطاء صوت جديد للثقافة السعودية، وتعزيز هويتها وحفظ إرثها تماشيا مع محاور رؤية المملكة 2030. حيث شهد ذاك المحفل تدشين حزمة من المبادرات، احتوت على: مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، الذي يسهم في تعزيز دور اللغة العربية إقليميا وعالميا، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وهو أول مهرجان سينمائي دولي في السعودية؛ يدعم قطاع الأفلام ويثري المحتوى المحلي السينمائي، إلى جانب عدد من المبادرات، كبينالي الدرعية وأكاديميات الفنون والمهرجانات الثقافية.
وتسعى الوزارة إلى الإسهام بما يساوي 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، مسارعة خطاها للعمل على صقل القدرات الثقافية، وتكريس الثقافة في مفاصل الحياة اليومية للمواطنين والمقيمين، وتوفير البرامج التعليمية والورش التدريبية، وتهيئة المعاهد وتجهيز المبادرات، وتنظيم الأنشطة والمهرجانات، مع الحفاظ على الهوية والأصالة.
وبرهنت السعودية على سلكها دروب الإبداع والابتكار؛ واستحدثت الأفكار البديعة والخلاقة، ومن ذلك أنها بدأت في تزيين الأعوام من خلال تسميتها، ووشحت عام 2021 باسم “عام الخط العربي”، باعتبار هذا الفن -الخط العربي- موروثا حضاريا نشأ وترعرع في الجزيرة العربية، وأضاءت على ما يزخر به هذا الفن من ماض مجيد وجماليات وتركيبات هندسية فريدة، وطرقت به أبواب قطاعات أخرى تحقيقا لقيم التكامل والتعاون، وراحت تدبج به قمصان لاعبي الدوري السعودي طوال الموسم الرياضي، وزينت به طائرات شركة الخطوط السعودية وطيران ناس، وشيّدت معارض عنه، منها “الكتابة والخط” و”مكتبة الملك عبدالعزيز للخط العربي”.
وفاح عبير البُن من عام 2022 المسمّى بـ”عام القهوة السعودية” امتثالا للعلاقة الوطيدة بين القهوة والإرث الثقافي السعودي، وما يجمعهما من تاريخ تجسّد في العادات والتقاليد، والضيافة والكرم، والمظاهر الإنسانية والجمالية والفنية، مسلطا الضوء على البُن الخولاني السعودي؛ وهو منتج سعودي أصيل ومن أهم المحاصيل الزراعية وأكثرها جودة في جنوب المملكة بمنطقة جازان. وفي سياق هذا العام أُوجدت مسابقات وفعاليات لأفراد المجتمع سجلت مستوى عاليا من المشاركة المجتمعية.
وأطلّ العام الجاري 2023 بمسمّى “عام الشعر العربي” بوصف الشعر العربي ركيزة حضارية في الثقافة العربية، وينظر إليه على أنه وعاء الحكمة والمعرفة، وديوان العرب وفنهم الإبداعي العبقري المتأصل في هوية الجزيرة العربية. ولأهميته الجلية أعدت السعودية مبادرات وأنشطة مثل مبادرة “منح أبحاث الشعر العربي” لمساعدة الباحثين في سبر مجالات الشعر وخصائصه الأسلوبيّة والمضمونيّة.
وبمرور الوقت لاحت على الحياة الثقافية في المملكة تغيرات إيجابية هي نتاج العمل التراكمي الدؤوب، وارتفع مستوى النشاط الثقافي المستدام في عموم البلاد، واغتنم مزاولو الفنون والثقافة الفرصة المواتية لارتقاء المنصات، مفصحين عن مواهبهم وكفاءتهم، بعدما سُهلت لهم إجراءات إصدار الرخص والتصاريح عبر منصة “أبدع”.
واتسعت رقعة هذه المنافع وغمرت مختلف شرائح المجتمع، حيث وُجهت لطلاب مدارس التعليم العام “مسابقة المهارات الثقافية” التي تُعد الأولى من نوعها، وتيسرت إمكانية دراسة مجموعة من التخصصات الثقافية في برنامج “الابتعاث الثقافي”، فيما عُبّد الطريق لمن لديه الرغبة من الفنانين في تطوير مشاريعه البحثية الإبداعية في برنامج “الإقامة الفنية”.
التطورات الثقافية
تضاعفت الخيارات والتجارب الثقافية لأفراد المجتمع وزوار المملكة، التي تحيي وتُعرّف في آن واحد بممارسات المجتمع وسلوكياته في قوالب إبداعية جذابة. ومما ولّدته وزارة الثقافة في سبيل ذلك مهرجان “طائف الورد” الذي تناول علاقة هذا النوع من الورد -في مدينة الطائف غرب السعودية- بثقافة المجتمع، بينما استحضرت في مهرجان “في ضيافة الطائي” سيرة حاتم الطائي أشهر شعراء وأسخياء العرب، ومن فاحت شذى سيرته من شمال المملكة بمدينة حائل. واعتادت في الأعياد والمناسبات الدينية والمحافل الوطنية على تنظيم الفعاليات واستجلاب المظاهر الاجتماعية.
وأصبحت السعودية مركزا ثقافيا جذابا تنبض مناطقه ومدنه وطرقاته بالثقافة والفنون، وتمكث في فلكه المحافل والأنشطة والمنابر الثقافية، وهذا ما شد محبي الاطلاع للمجيء إليها، والتجول في ذاكرتها الفياضة واستقاء المعارف من منابعها. ومن ناحيتها واكبت الوزارة التنامي الحثيث، ولبّت تطلعات النزلاء الذين قادتهم الرغبة في الاكتشاف، وهي لم تغفل في الأصل حين وضعت حجر أساسها عن توطيد العلاقات وبناء الجسور مع الحضارات الأخرى.
ومن دأبها في توثيق الروابط مع الشعوب مشاركتها في الاجتماع الوزاري لوزراء الثقافة لمجموعة قمة العشرين، امتدادا لمبادرة المملكة بعقد الاجتماع المشترك الأول لوزراء الثقافة في مجموعة العشرين على هامش الرئاسة السعودية عام 2020 بالرياض. ولأول مرة نظمت الوزارة مهرجان الأوبرا الدولي في العاصمة السعودية، وأحيا لياليه أبرز الفنانين.
ورصدت وزارة الثقافة الحراك الثقافي، من خلال إصدار تقارير “الحالة الثقافية في المملكة”، كونها منتجات معرفية ترصد الحراك الثقافي المحلي داخل وخارج المملكة، وتعتبر نقطة أساس معرفية تُحدث دوريا، وتستند على أبحاث ودراسات معتمدة.
وأخرجت النسخة الأولى من “تقرير الحالة الثقافية في المملكة 2019” لسبر اتجاهات القطاع الثقافي، ووضع مرجع رسمي يؤرشف التطورات الثقافية. وفي النسخة الثانية “تقرير الحالة الثقافية في المملكة 2020: رقمنة الثقافة” وصفت وحللت الوزارة الحراك الثقافي في القطاعات الثقافية الفرعية، مع رصد التحولات الرقمية المنعكسة على طبيعة الأنشطة والفعاليات، مرتكزة على سبعة محاور أساسية جاء فيها: الإبداع والإنتاج، الحضور والانتشار، رقمنة الثقافة، البنية التحتية والاقتصاد الإبداعي.
وأشارت النسخة الثالثة “تقرير الحالة الثقافية في المملكة 2021” إلى “الثقافة في الفضاء العام”؛ مسلطة الضوء على عودة النشاط الثقافي بعد فترات الإغلاق بسبب جائحة فايروس كورونا، ومستويات الحضور الثقافي في المساحات المفتوحة والأماكن العامة.
وكشف التقرير الأخير عن إطلاق مؤسسات التعليم العالي لـ853 برنامجا أكاديميا متعلقا بالثقافة والفنون من 2019 إلى 2021، وفي نفس الفترة نمت أعداد الراغبين في الابتعاث لدراسة التخصصات الثقافية والفنية بنسبة 132 في المئة، وارتفعت أعداد المتقدمين إلى تخصصات السياحة والفندقة والفنون والإنتاج المرئي وفنون الطهو.
وبيّن التقرير أن هناك أكثر من 5 ملايين رحلة سياحية تضمنتها أنشطة ثقافية، بالإضافة إلى 70 فعالية ثقافية أقامتها المنظمات غير الربحية، وما يزيد عن 275 معرضا حضوريا نظمتها المؤسسات والصالات الفنية التجارية، وبلغت نسبة نمو زيارات الأماكن التاريخية والتراثية 30.3 في المئة، ووصل مجمل الأفلام المحلية المشاركة في مهرجاني البحر الأبحر وأفلام السعودية إلى 185 فيلما، وتُرجم 336 عملا بواسطة مبادرة “ترجم”.
وأدرج التقرير 6 اكتشافات أثرية مهمة، و23 مشروع مسح أثري، و4 عناصر جديدة من التراث السعودي سُجلت في قوائم عالمية، ولفت إلى أن جهود تشجيع الإبداع انتهت إلى 17 مسابقة ثقافية، وافتتاح مجمعين إبداعيين، وتأسيس صندوق التنمية الثقافي، وتنوع وازدياد برامج الدعم في مختلف المجالات الثقافية، كما تطرق التقرير إلى التحاق ما يفوق 28 ألف متطوع بالمجالات ذات العلاقة بالثقافة.
وقد انطلق حراك الوزارة الثقافي من خلال تخصيص 16 قطاعا فرعيا ذا أولوية، للتركيز عليها في عملها وتعزيز قدرتها على قيادة المبادرات الرائدة في مختلف المجالات الثقافية، ومما شملته: الكتب والنشر، والتراث الطبيعي، وفنون العمارة والتصميم. وفي عام 2020 أسست إحدى عشرة هيئة متخصصة تشرف على أنشطة القطاعات الثقافية الفرعية، وتنفذ بها إلى أقصى مستويات الكفاءة والفاعلية، وتنهض بمقوماتها وبالبيئة التمكينية، وتحفز ممارسيها؛ حاملة على عاتقها تحسين القدرات والخبرات، وإبرام الشراكات وإدارة الأصول الفكرية والمادية، وتقديم التمويل الداعم لأنشطة القطاع، وتنفيذ الخطط الإستراتيجية.
وسرعان ما دبت الحيوية في القطاعات الثقافية، والتمّ حولها المبدعون، باسطة لهم أرضا خصبة تتناغم مع الرؤى الطموحة، فعلى سبيل المثال لا الحصر ألبست هيئة الأدب والنشر والترجمة حلّة جديدة لمعارض الكتب في السعودية، وصاغتها بطريقة مبهرة راعت مكانتها الدولية المؤثرة مثل “معرض الرياض الدولي للكتاب”، وأيضا نظّمت فعاليات ومبادرات محورية، كمؤتمر الرياض الدولي للفلسفة، ومبادرة الشريك الأدبي المعنية بتوظيف الأنشطة الثقافية في المقاهي والأماكن العامة، وبرنامج النشر الرقمي الساعي إلى نشر الكتاب الرقمي بمسارات متعددة.
هيئات ثقافية وفنية

تابعت إحدى عشرة هيئة على حدّ السواء إنجاز خططها لبلوغ مستهدفاتها بما يتوافق مع آمال المتطلعين، ونمّقت الحاضر حتى يتناسب مع روح العصر ومتطلبات القطاع الثقافي في ضوء التغيرات المستمرة، ومن المواظبات الملموسة إنشاء هيئة المكتبات لـ”منصة الكتب الرقمية”، إذ تربط مستخدميها بالكتب الصوتية والرقمية، ومشروع “مناول” الذي يسمح باستعارة الكتب مجانا وإرجاعها إلى نفس الجهاز آليا.
وتسعى هيئة التراث إلى حماية الثروة الثقافية والمواقع الأثرية مثبتة العُمق التاريخي للمملكة، واستطاعت على خلفية أعمال البحث والتنقيب الوصول إلى اكتشافات قيمة، كالظواهر المعمارية والقطع الأثرية العائدة إلى القرنين الثاني والثالث الميلاديين في جزر فرسان. وأسفرت نتائج مسحها الأثري في منطقة الفاو الأثرية -عاصمة مملكة كندة- عن بقايا مستوطنات بشرية تعود إلى العصر الحجري الحديث، وعدد من المساحات الزراعية، ومجموعة من الفنون والكتابات الصخرية.
وتوصلت الهيئة إلى اكتشاف وتوثيق أول نقشين في منطقة القصيم، كُتبا بالخط الداداني، وهما يبرزان الطريق الواصل بين مملكتي دادان ولحيان في شمال غرب الجزيرة العربية، ومملكة كندة في الفاو مرورا بوسط الجزيرة العربية، مشيرا هذا إلى التواصل الحضاري والتجاري بين الممالك العربية القديمة في فترة ما قبل الإسلام.
وفي نطاق عملها مهدت الهيئة السبل للحرفيين، عناية بهم وبصنعتهم الثقافية، ومن ذلك أنها نظمت “الأسبوع السعودي الدولي للحرف اليدوية” وخصصت أكثر من 200 ركن للحرفيين مع ورش توعوية وتدريبية، معبرة عن ثقافة البلاد وتنوع تراثها.
وزارة الثقافة السعودية ترصد سنويا الحراك الثقافي من خلال إصدار تقارير "الحالة الثقافية في المملكة"
ولحقت هيئة الأفلام بالركب، وحفزت ببرنامج “حوافز الاسترداد المالي” منتجي السينما المحليين والإقليميين والدوليين لتصوير أعمالهم داخل المملكة، بنسبة تصل إلى 40 في المئة من المصاريف المؤهلة للحوافز الداعمة للإنتاج السينمائي، وأيضا آزرت صناع الأفلام من المواطنين، ومواليد المملكة وأبناء المواطنات، لصناعة الأفلام الطويلة والقصيرة عبر مسابقة ضوء لدعم الأفلام، مما عزز منظومة المحتوى الإبداعي في المملكة.
أما هيئة الأزياء فآوت شغف مصممي الأزياء عن طريق البرامج والفعاليات، متيحة لهم الظهور محليا ودوليا. وأتى برنامجها الإرشادي “100 براند سعودي” موفرا حزمة من البرامج التدريبية والإرشادية المتخصصة لمدة عام، بمشاركة خبراء ومتخصصين في صناعة الأزياء العالمية، نحو المنافسة على مسرح الأزياء العالمي، وهو ما تكلل بإطلاق تقرير حالة الأزياء في المملكة العربية السعودية، ومنصة رؤى الأزياء السعودية الهادفة إلى توضيح الوضع الراهن لقطاع الأزياء في السعودية وتأثير القطاع على الناتج المحلي ومستقبل الأزياء في المملكة.
وفي الوقت ذاته عملت هيئة المسرح والفنون الأدائية على عدة جوانب، فحرصت على مساندة الكتاب والمؤلفين في مسابقة “التأليف المسرحي” لتحظى النصوص الفائزة بإنتاج وإخراج إبداعي، بالإضافة إلى تنظيمها المسرحيات وإصدارها رخصا تتيح الممارسة المسرحية، وأقامت أول مهرجان عالمي متخصص في الفنون الأدائية الجبلية، “مهرجان قمم الدولي”، في مدينة أبها جنوب المملكة. وخلقت في مهرجان “الرياض للمسرح” تظاهرة مسرحية أنتجت 20 عملا مسرحيا في مرحلته الأولى، وقد قُدمت في مناطق إنتاجها ورُشحت منها 10 عروض مسرحية للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان.
ومن هذا المنظر الشامل الذي وقف على أبرز التحولات والمنعطفات الثقافية نلحظ التحركات المثابرة وما تمخض عنها من تحسن أسهم في رفع جودة الحياة، وترسخ التفاعل الثقافي الناجع، وتطورت البيئة الثقافية ونشط التبادل الثقافي العالمي، وظهرت الهوية الوطنية السعودية لتنتشر مقوماتها وعناصرها الحضارية الفريدة.