السعودية الجديدة ولبنان العتيق

الخميس 2015/12/24

نحيا زمنا سعوديا جديدا تخلت فيه السعودية عن السلمية التي كانت السمة الأبرز لممارستها السياسية، وركنت إلى الخيار الحربي تحت عنوان عام يتعلق بقيادة الحرب السنية على الإرهاب. أبرز النتائج المتوقعة من هذا التحول السعودي أنه يُخرجُ الإرهاب من حصريته السنية، ويصوب على الإرهاب الشيعي ويستهدفه.

هذه السعودية الجديدة لم تنتج لبنانا جديدا بل ساهمت في إعادة إنتاج لبنان العتيق، لبنان الإقطاع المتشكل من ثنائية الموارنة والسنة، كما عبر عن ذلك بوضوح الرئيس المنتظر سليمان فرنجية مؤخرا في سياق حديث تلفزيوني.

لبنان السنة والموارنة يأتي في لحظة فقد فيها كل من هذين المكونين الدور الذي كان يمنحه خصوصية، تجعل من إمساكه بمفاصل القرار في لبنان سياقا طبيعيا لا يمكن إنكاره ولا دحض الوقائع المرتبطة به. الموارنة كانوا في لحظة ما يمثلون الجسر الذي يربط لبنان بالعالم، والوجه الحضاري والنخبوي الذي يعطي للبنان خصوصية ويمنحه حضورا دوليا. موارنة اليوم تحولوا إلى جزء ملحق بالقوى الإسلامية، وباتوا مجرد تلوين سياسي، وفقدوا حضورهم النخبوي وخصوصا بعد أن بات جزءا كبيرا من الحضور المسيحي الماروني في لبنان، مؤيدا لنظام الأسد الذي ينكل بالسوريين المنسوبين إلى السنة. من هنا لا تكون الرقصة الثنائية المارونية – السنية التي يتم تصميم خطواتها حاليا رقصة حبيبين بل مصافحة عدوين.

سليمان فرنجية الإقطاعي القادم إلى كرسي الرئاسة تحت ظلال السعودية الجديدة المحاربة ليس امتدادا للنظام السوري، ولا رئيس تسوية مقبولة من السنة والشيعة، بل هو رئيس نهاية المسيحيين واحتدام المعركة بين السنة والشيعة. هذه المعركة هي المعركة الأساسية وفي سبيلها يهون كل شيء، وتتم التضحية بالتحالفات.

هذه الحقيقة دفعت بالعماد ميشال عون وسمير جعجع إلى التكتل تحت عنوان مسيحي، وقد تجلى حضورها بقوة في ما أعلنه قيادي في تيار المستقبل، حول نية التيار الأزرق في الاستمرار في السعي إلى إنجاح تسوية انتخاب فرنجية، حتى لو رشحت القوات اللبنانية العماد عون.

لم يعد أحد يحاول تلوين صيغته الطائفية بالتحايلات الوطنية المتعلقة بالتحالف مع الطوائف الأخرى.

ربما بدأ الزمن السني القادم على لبنان والمنطقة يرخي بظلاله. إخراج المسيحيين من معادلة الحكم والسلطة والشراكة في لبنان ليس سوى أول الغيث. يمكن استشفاف جدية النية في السير قدما في استكمال معالم هذا الزمان في ردة فعل حزب الله على اغتيال سمير القنطار بغارة إسرائيلية.

لغة التهديد والوعيد غابت، وغاب الملف الرئاسي عن خطاب نصر الله بعد الاغتيال، حيث كان أبرز ما فيه هو الحديث عن أن العقوبات الأميركية لا تطال الحزب في لبنان ولا تؤثر عليه، لأن أمواله لا تمر عبر المصارف اللبنانية. نصر الله يتوجه بهذا الكلام حصريا إلى الجمهور الشيعي الذي بدأ يستشعر الخطر الوجودي القادم والذي يرتدي وجها سنيا واضحا، ويمثل التأويل الحقيقي لمعنى وأهداف الحلف السعودي ضد الإرهاب غير الداعشي.

يمكن رسم ملامح تسنن لبنان في اللحظة التي تم فيها الإفراج عن العسكريين لدى جبهة النصرة التي منحت صفة الناطق الرسمي باسم اللاجئين السوريين، ما حول انتسابهم من الهوية السورية إلى المذهبية السنية. من هنا باتت سوريتهم ممتنعة، ولم يعد تعريفهم ممكنا إلا انطلاقا من سنية ارتضى الجميع أن يترك لجبهة النصرة مهمة الوصاية عليها والنطق باسمها.

كانت الشبكة الحقوقية التي طالبت النصرة بمنحها اللاجئين مقابل الإفراج عن العسكريين إعلانا عن مولد دولة النصرة السنية في لبنان، التي تضم اللاجئين السوريين سواء ارتضوا بذلك أو لم يرتضوا، لأن لا مرجعية لهم سواها. حال السوريين صار مماثلا لحال الطوائف اللبنانية المخطوفة من قبل القيادات التي تم تلزيم طوائفها إليها رغما أنف أفرادها، الذين باتوا لا يملكون سواها كمرجعية يعودون إليها في تدبير أي شأن من شؤون حياتهم. هكذا بات حال اللاجئين السوريين في لبنان الذين لزّموا للنصرة مماثلا لحال التلزيم التي تطبع بنية السلطة عند الطوائف اللبنانية. من هنا يمكن القول إنهم باتوا بهذا المعنى لبنانيين عبر التلزيم، وسنة عبر نوعية التلزيم.

سنية النصرة مرشحة في أفق التحولات الكبرى المتسارعة للتحول من صيغة الطرف الإرهابي إلى طرف، ليس فقط خارج توصيف الإرهاب، ولكن إلى طرف محارب للإرهاب. هكذا يمكن أن نقرأ في تسليم قرار اللاجئين إلى النصرة، الذي جاء قبل الإعلان عن نشوء الحلف السعودي السني ضد الإرهاب، أنها ستكون جزءا من هذا الحلف الذي سيحارب داعش وحزب الله في آن واحد.

هذا هو لبنان السني الذي تُركّبُ ملامحه الآن، ويبدو أن هناك نهاية معلنة لتلك الصبغة الليبرالية التي كان تيار المستقبل يحاول من خلال تبنيها صناعة ماركة سنية مضاربة، يمكنها أن تنمو في بيئة سنية دون أن تنغلق على ذاتها داخل هوية سنية مغلقة.

لم تعد هذه الليبرالية مقبولة ولا حتى ممكنة. المساومة لا تجري بين ليبراليين وطوائف أخرى، بل بين السنة الذين يحيون نشوة الصعود السعودي الحربي، وبين الشيعة المهزومين في سوريا، والذين يريدون التصرف كمنتصرين، والمسيحيين الذين غادروا دورهم وصودر حضورهم، وكانوا مساهمين فعالين في إنجاح عملية المصادرة القاسية التي جرت في حقهم.

أبرز علامات المشاركة المسيحية في مصادرة القرار المسيحي تكمن في طبيعة النقاش الدائر حاليا، حيث لا ينكر أحد من المرشحين الأبرز للرئاسة ،أي فرنجية وعون، نسبه الأسدي في السياسة وربما في الأخلاق كذلك، ولكن النقاش يدور حول طبيعة هذا النسب وتفاوت درجاته بين الأخوّة والتأييد.

لبنان العائد إلى إقطاع لا تبدو شروطه منجزة محاصر بمفاعيل الحرب الدولية على الارهاب، والحلف السني الذي تقوده السعودية ضد الإرهاب يحيا داخل شروط حرب أهلية منجزة. لبنان العتيق العائد يمتلك كامل نظام الأحقاد العتيقة، ولكنه لا يمتلك أجهزة الضبط القديمة نفسها ولا ظروف إنتاج التسويات، لأنه لا يمكن للتسويات أن تنجح داخل فضاء التجاهل، والإقصاء والهزيمة.

السنة يهجمون حاليا، الشيعة يحاولون تركيب خطاب نصر رئاسي لمداراة هزيمتهم في الميدان السوري، والمسيحيون بلا دور، والدروز يحاولون منذ فترة الالتحاق بنسب سني تجنبا للمجزرة، فهل يمكن لهذا الوضع أن ينتج تسوية؟

التسويات قادمة على أجنحة المجزرة، والمجزرة اسم واحد لمعان واسعة تشمل الرئاسة والحروب المتكاثرة ضد الإرهاب، والبنى التي تعرّف الجماعات من خلالها عن نفسها، والتي تحضر فيها مفردة التسوية كنوع من الورد الذي لا ينمو ويتنفس ويحيا إلا بين الجثث.

كاتب لبناني

8