السعودية: التأسيس وإعادة التأسيس

بعد خمس سنوات، ستحيي الدولة السعودية الذكرى المئوية الثالثة لتأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود في العام 1727، وهو الحدث الذي غيّر الجغرافيا السياسية بالمنطقة، وشكّل منطلقا لتحولات حاسمة ومصيرية في تاريخ الجزيرة العربية باتجاه معركة الوجود، وقد صدق الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودي عندما قال إن بلاده لم تتأسس بتوقيع من الأمم المتحدة، وإنما كان “التأسيس بأيدينا وليس من قبل الاستعمار”، وفي ذلك إشارة مهمة إلى من يريد أن يقرأ الأبعاد التي يريد الأمير عبدالعزيز الوصول إليها بتأثر كامل من رؤية والده العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز المعروف باهتمامه الكبير بالتاريخ وبالخروج بالاستنتاجات الملهمة من الأحداث الكبرى ولاسيما تلك المتصلة بمعنى استقلالية القرار الوطني.
هذا العام ولأول مرة أحيت المملكة العربية السعودية ذكرى تأسيسها بأمر ملكي صدر في يناير الماضي، وضمن خطة لإحياء التاريخ وتجديد قراءته في إطار مشروع إعادة التأسيس الذي تعرفه الدولة منذ سنوات، وانطلاقا مما اعتبره الملك سلمان “احتفاء بتاريخ دولة، وتلاحم شعب، والصمود أمام كل التحديات، والتطلع إلى المستقبل”. وهو ما يمكن اعتباره انفتاحا رسميا على الماضي بكل تفاصيله للتعامل مع الحاضر بكل تجلياته والمرور نحو المستقبل بكل تحدياته، إضافة إلى حقيقة مهمة وهي أن المملكة متحرّرة تماما من مطبّات التاريخ وليس لها فيه ما يمثل إزعاجا أو يفرض عليها القلق من النظر فيه أو التطرّق إليه.
وسيأتي إحياء الذكرى المئوية الثالثة لتأسيس الدولة قبل ثلاثة أعوام من الاحتفال بأوج التنفيذ العملي لرؤية العام 2030 التي كان قد أعلن عنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الخامس والعشرين من أبريل 2016 تأسيسا لسعودية ما بعد النفط بسلّة من المشاريع الضخمة والتي ستتجه بالبلاد إلى نهضة شاملة وتنمية واسعة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الحديثة.
وفي الثالث والعشرين من سبتمبر 2032 ستحتفل المملكة بمئوية التوحيد استذكارا ليوم الثالث والعشرين من سبتمبر 1932 عندما أصدر الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود المرسوم الملكي القاضي بتحويل اسم الدولة من مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى المملكة العربية السعودية.
يمكن القول إن إحياء ذكرى تأسيس الدولة الأولى يمثّل خطوة مهمة على طريق الحركة الإصلاحية الحالية، وذلك بالتعامل معها كحدث وطني تاريخي مهم
وتعتبر قصة آل سعود مع الحكم ملحمة تاريخية بتكرار التجربة والإصرار على تركيز كيان الدولة منذ تأسيسها في العام 1727، وبمرحلتيها الأولى والثانية، وصولا إلى الدولة الثالثة على يد الملك عبدالعزيز الذي استرد إمارة الرياض في 1902 وسيطر على كامل نجد في 1921 ونصب ملكا على الحجاز في يناير من عام 1926، وبعدها بعام غيّر لقبه من سلطان نجد إلى ملك نجد، وسميت المناطق التي يسيطر عليها مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، وظلت بذلك الاسم حتى وحد الملك عبدالعزيز جميع المناطق التي يسيطر عليها في كيان واحد، وكان ذلك في الثالث والعشرين من سبتمبر عام 1932 حين أعلن رسميا عن قيام المملكة العربية السعودية.
وقد يكون من اللافت للاهتمام أن قصة آل سعود مع الحكم تسبق 1727 بنحو 300 عام أخرى عندما أسس مانع بن ربيعة المريدي (1400 – 1463) وهو الجد الأعلى للأسرة، مدينة الدرعية على أرض أسلافه بني حنيفة باليمامة، وقد توارث أبناؤه إمارة الدرعية لأجيال عديدة ثم استقر الحكم لأسرة آل مقرن من أبناء مانع الذين كان منهم محمد بن سعود، أول أئمة الدولة السعودية الأولى.
ويمكن القول إن إحياء ذكرى تأسيس الدولة الأولى يمثّل خطوة مهمة على طريق الحركة الإصلاحية الحالية، وذلك بالتعامل معها كحدث وطني تاريخي مهم، وكإطار سياسي لبداية مرحلة مهمة من تاريخ الدولة، دون التشدد في ربطه بشخصية الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي كان له دور في صياغة ذلك الحدث ولكن كمصلح ديني وفق خصوصيات تلك الفترة وبيئتها الاجتماعية والاقتصادية والصراعات التي كانت قائمة في الجزيرة العربية، وهو ما يعني فسح المجال اليوم لمناقشة تلك الأحداث والوقائع والظروف بما يتجاوب مع خصوصيات هذه المرحلة سواء من حيث الدولة الناهضة والرؤية الثاقبة.
يدرك المقربون من الملك سلمان اهتمامه الكبير بالتأريخ إطلاقا وتوثيقا وتحقيقا واعتبارا، حتى أنه سعى وعلى امتداد عقود طويلة من حياته للبحث في تاريخ الأسرة والقبائل والمناطق السعودية وفي مختلف جزئيات وتفاصيل بناء الدولة على امتداد القرون الثلاثة الماضية، كما كان من المتابعين بدقة لبصمات أسلافه من آل سعود ولاسيما من أصحاب بوادر التأسيس، وإذا كان الإمام محمد بن سعود قد أسس الدولة الأولى، فإن الملك عبدالعزيز أسس الدولة الواحدة الموحدة القوية التي نراها اليوم على امتداداتها التاريخية والجغرافية والاجتماعية والحضارية، ثم ها هو الملك سلمان يقود ملحمة تأسيس جديدة للدولة القوية المقتدرة المتصالحة مع العصر والعالم والمنفتحة على الحضارات والواثبة نحو المستقبل برؤية الأمير محمد بن سلمان في انسجام غير مسبوق مع تطلعات شبابها ونسائها وطموحات شعبها لتحقيق التنمية المستدامة في ظل ثورة ثقافية هادئة تتميز بشجاعة الإقدام على الإصلاحات الكبرى دون صدام مع التاريخ والتراث وإنما بالعمل على التجاوب معها بروح التقدم نحو المستقبل على أساس المصالحة مع الماضي.
للسعودية تاريخها الذي من حقها أن تفخر به، وهو تاريخ عريق وثري بالأحداث والوقائع والعبر والاستنتاجات، وخلال السنوات الماضية لم يعد هناك من المحظورات ما يمكن أن يحول دون القراءة المتأنية لكل صفحات ذلك التاريخ، فالدولة ذاتها تصرّ على تمكين شعبها من المصالحة مع جميع مراحل التاريخ، ما قبل الإسلام وما بعده، وما سجلته الأحداث خلال بناء الدولة منذ الإرهاصات الأولى قبل 600 عام وصولا إلى الدولة الأولى التي كانت عنوان التأسيس القاعدي وصولا إلى رؤية 2030 التي تمثل عنوان التأسيس المتقدم في اتجاه السعودية كدولة كبرى بمقدراتها وإمكانياتها ومنجزاتها الكبرى التي بدأت تتحقق على أرض الواقع في سياقات البناء الحضاري الجديد.