السرد يقدم الهوية العمانية بشكل أفضل من الشعر

الشاعر العماني يونس البوسعيدي: ليس هنالك قضية واحدة.
الثلاثاء 2024/05/14
المسابقات الأدبية لا تعني اختيار الأجود

يمثل المكان العماني ملهما هاما للعديد من التجارب الأدبية، بما يوفره من معطى جمالي وما يقدمه من سمات حضارية وثقافية، ولكن هناك من الأدباء العمانيين من لم يتوغلوا عميقا في مكانهم وبقوا يهوّمون على سطحه، وهذا أضر بأدبهم. فيما يلي حوار مع الشاعر والكاتب العماني يونس بن مرهون البوسعيدي حول الأدب العماني وعلاقته بالمكان وخصوصيته.

خميس الصلتي

مسقط – تتجسد تجربة الشاعر والكاتب العماني يونس بن مرهون البوسعيدي من خلال ما أكدته أعماله ونتاجاته الشعرية المتعددة، والتي برزت تباعا خلال السنوات التراكمية في الأدب لديه، فإلى جانب الشعر، صدر له مؤخرا وضمن أعمال الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في معرض مسقط الدولي للكتاب “جوقة العنادل”، والذي وصفه بالحلم الذي لم ينته بعد، سبقت ذلك جملة من الإصدارات من بينها “هاجس الماء والمرايا”، و”كطائر يحلم بالمطر” و”قريب كأنه الحب”.

في هذا السياق يتحدث البوسعيدي عن إصداره الجديد “جوقة العنادل” ويشير إلى أنه في أصله حلم لم ينته بعد، حلم له امتداد قبلي وسيكمله آخرون، وهو إعلاء صوت الشاعر والشعر العماني خارج الجغرافيا، فكانت هذه الكتابات عن الشعر والشاعر العماني على هيئة مقالات تتبع الجاذبية وليس النهج العلمي، الجاذبية فيما تلتقطه الروح من الأدب العماني والشعري بصورة أقرب.

قضايا الشعر

الشعر العماني المعاصر لم يلتقط شاعرية المكان العماني إذ بقي الشعراء العمانيون في أغلبهم مقلدين لغيرهم
الشعر العماني المعاصر لم يلتقط شاعرية المكان العماني إذ بقي الشعراء العمانيون في أغلبهم مقلدين لغيرهم

يقول البوسعيدي إن إصدار “جوقة العنادل” وجد صداه حين خروجه إلى النور مباشرة، إذ اتخذ منه الباحث الشيخ خلفان بن سالم البوسعيدي مصدرا حين الحديث عن الشيخ محمد بن مسعود الصارمي، وهذا يعطي إشارة مهمة إلى نجاعة الهدف الذي تقصّده الكتاب، وهو الالتفاف حول الشعر العماني قديمه وحاضره، وهو مشغول بهذه الفكرة.

ويضيف “لم أشأ من الكتاب أن يأخذ الطابع الأكاديمي بل هو مقالات تتلمس الذائقة والقراءة الانطباعية، كما لم تنتهج خطا زمنيا واحدا، فنظرت للشاعر العماني القديم والشاعر العماني المعاصر، وإن كان يرى أن الكثير منها كان احتفاء بالشاعر الذي غادرنا جسده، فإن ذلك من الوفاء له”.

وحول استغلال الأديب العماني لوسائل التواصل الاجتماعي الحديث في نشر أدبه، والأدب العماني يوضح “هذه مسألة يتفاوت فيها كل شخص عن الآخر، وأرى أن مجموعة جيدة من شعراء الفصيح في سلطنة عمان استثمرت هذه الوسائل للتعريف بشعرها”.

للشاعر والكاتب البوسعيدي عبارة حول الأشكال الشعرية فقد أشار إليها ذات مرة قائلا “هناك ظلم يلحق الأشكال الشعرية من قبل بعض الشعراء الذين لا يتعاطون هذه الأشكال”، وذكر مثالا على ذلك نصوص الرثاء والهجاء والمدح وغيرها، وهنا يوضح قوله “الشاعر الآن فهم الواقع الشعري بطريقة خطأ، ربما أراد أن يظهر الحداثة ولكنه لم يفهم أن الشعر قابل بكل مدارسه وأشكاله لكل أغراضه التي استعمل فيها، وهذه الأغراض لا تخلو من الإبداع لمن استطاع إليه سبيلا”.

ويتابع “كلنا نستذكر ميمية المتنبي ‘على قدر أهل العزم’ ونونية أبي مسلم ‘تلك البوارق حاديهن مرنان’ هذه نصوص في أغراض مدحية واستنهاضية، كذلك نستذكر ‘مديح الظل العالي’ لمحمود درويش فهذا نص مدحي، فبمجرد أن تذم الأغراض الشعرية المألوفة ومحاولة حصر الغرض الشعري في غرضين اثنين أو ثلاثة ممن عجز عن مطاوعة الأغراض أو الأشكال الشعرية، يعتبر ذلك تجنيا على الشعر الكلاسيكي والمعاصر”.

ويبين “أما الدعاوى ذات القوالب الجاهزة كالاستجداء وغيره فليستخدم الشاعر نصوصه في الصعلكة، بل لماذا يمنع الشاعر من الترزق بشعره ليشتري حليبا به لأطفاله، لا أظن أن هنالك قضية واحدة لأي أديب أو كاتب أو فنان يرتكز عليها ولا يفارقها، وأكبر مثال على ذلك من أطلق عليهم ‘أدباء المقاومة’ مثل محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما، فقد رفضوا حصرهم في القضية الفلسطينية فقط، لذلك لا أرى قضية واحدة يجب أن تحصر الشاعر”.

لكن البوسعيدي لا ينفي أنه يميل نفسيا وطوعيا للناس البسطاء والمكان البسيط في الكتابة عنهم، لذلك يرتاد الأماكن التي يرتادها هؤلاء، وقليلا جدا ما يميل للأماكن التي يمكن وصفها بالبرجوازية أو الأرستقراطية – لو صح التعبير طبعا – مع ذلك يعترف بأنه يجد صعوبة في الولوج إلى هذا العالم، هذا عالم يجب استبطانه بنوتات أخرى، وزوايا أبعد عن العين المجردة، والقبض على هذين لاستكناه عالم الإنسان البسيط والدخول إلى أعماقه كالقبض على الماء والنار.

ويتابع “لا أحب أن أضع صورة انطباعية عن عالم الإنسان، فأنقل للمتلقي ما تراه عينه أو تسمعه أذنه، بل أرجو التغلغل داخل الإنسان وداخل الجماد بأنسنته، وداخل كل مخلوق، وإن تخيلتني أفعل ذلك فالتحدي هو مع الكيفية، كيف أضع اللحن؟ وكيف أضع الموسيقى في القطعة الشعرية التي أرجوها أن تتغلغل إلى داخل ما يشعه الشعر”.

أولوية الثقافة

الالتفاف حول الشعر العماني قديمه وحاضره
الالتفاف حول الشعر العماني قديمه وحاضره

حول الهوية في الأدب العماني وحقيقتها، يشير البوسعيدي إلى أنه يتوقع وجود هوية لأي أدب جغرافي إلا لو أن الشاعر استخدم بلده حيزا خياليا لواقع نصه الشعري، ويؤكد أن هذا ليس في الشعر فقط بل حتى في النثر، وهذه قضية خرجت من الجدل فصارت من المسلم به، وبالطبع في النقد الأدبي القديم يقال هناك الأدب الأندلسي مثلا نسبة إلى الهوية الأندلسية في الشعر، وغيرها من الأمثلة الكثيرة.

ويتابع “في رأيي المتواضع أظن أن السرد العماني تتضح منه الهوية العمانية أكثر من الشعر العماني، وربما للأسف هذا حقيقي، فمثلا نقرأ ‘النارنجة’ لجوخة الحارثية أو ‘تغريبة القافر’ لزهران القاسمي سنجد البيئة العمانية، على نقيض الشعر العماني المعاصر الذي لم يلتقط شاعرية المكان العماني، والأسباب في ذلك كثيرة، أظن أن أهم أسبابها هو أن الكثير من الشعراء العمانيين المعاصرين وإن بدا نصهم الشعري في رونق الحداثة لكنهم مقلدون لشاعر حداثي، هذا يعني قصورا في الفهم عند هذه الفئة من الشعراء في فهم الحداثة، وضمورا في التقاط ذبذبات شاعرية المكان العماني، لأن شاعريتهم تقليدية لغيرهم، وإلا فالمكان العماني موح بدرجة عظيمة بما يمكن أن يميز النص الأدبي فيفوح منها عبير الهوية العمانية”.

وحول أداوت تشكيل الشاعر في سلطنة عمان وأثر المسابقات الأدبية المحلية والعربية في ذلك يقول “الشاعر يتشكل فطريا، فإما أن تنمو هذه الموهبة وتتطور ثم تأخذ مسارها الحيوي كأي كائن حي، أو تهمل وتموت كأي زهرة تهمل في أصيصها، وللتجارب الشخصية والقراءة دور في تشكل تجربة الشاعر. ولكنني أتحفظ على كلمة تجربة، هل يصح أن تلقى على كل شاعر ولو أخرج أطنانا من المجاميع الشعرية؟”.

ويضيف “أنا أجيب بالنفي، فإذا كان ما يكتبه هذا الشاعر صورة مما كتبه غيره مع تغيير في تموضع الكلمات فأين هي التجربة المختلفة التي يمكن أن يقال إنها تجربة مميزة أو مفردة. أرى إن الشاعر الذي يصح أن يقال عن أعماله تجربة هو الشاعر الذي ابتكر أو كانت له فرادة في شيء، مهما كان ذلك الشيء، أما التشابه فلا يستحق أن يوصف بالتجربة”.

الشاعر يتشكل فطريا، فإما أن تنمو هذه الموهبة وتتطور ثم تأخذ مسارها الحيوي أو تهمل وتموت كأي زهرة

ويوضح البوسعيدي أن المسابقات الأدبية لا تعني اختيار الأجود والأفضل شعريا، فقد يكون العكس تماما، ودليل ذلك هو متابعة المسابقات الشعرية التي أفرزت الكثير من الغث لأسباب بعيدة عن الشعر، وقد يكون الشعر آخرها، لعل أسباب الفوز فيها قد يكون الربح المادي أو الجنسية أو جنس الشاعر أو غيره، والذي ألحظه من الشعراء العرب خلال التحاور معهم هو إيمانهم بأن هذه البرامج ليست شعرية خالصة، فوراء الأكمة ما وراءها، وليس الذين ترشحوا بها كانوا هم الأخير والأجود شعريا، وعليه فإن يكتب في سيرة الشاعر فوزه بجوائز فذلك لا يعني أنه الأفضل. وعلى مسار التاريخ لم يكن يعني أن الشاعر المقرب من بلاد الخلفاء والأمراء هو الأفضل، وهذه الحالة تصلح للقياس المنطقي والشعري.

وعن العلاقة بين المثقف والإدارة الثقافية يقول البوسعيدي “لأكن واقعيا كما أريد وأظن، فالسبب في أمرين، الأول في ‘فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون’، المشكلة أن المثقف العماني كأي مثقف على وجه الكرة الأرضية يحمل مراياه المحدبة معه حيثما سار، والإدارة الثقافية قد يكون على دستها من لا يتذوق ويزن الثقافة الحق، كما أن الثقافة متشعبة، هناك الأدب بأفانينه كلها، وهناك الفن، وهناك وهناك، وهناك من لا يستطيع إرضاء كل مثقف يظن أن اسمه يجب أن يلحق بالأذان، بينما قد يكون نتاجه الأدبي متواضعا جدا، لكنها الأنا العالية والنرجسية”.

ويتابع “أرى لمداواة هذه العلاقة هي عدم اتكاء المثقف بصورة عامة على أحد، والحفر بأظافره لإبراز أناه، إذا كان في ذلك ضرورة، مع أنني أرى أن الثقافة الآن ليست هي الأولى في الحياة ولا في الأهمية، قد تجاوزتها أشياء كثيرة وإن كانت تافهة، ولكنها تجذب الجمهور الذي كان منحازا للأدب والثقافة”.

وبالعودة إلى الشعر، يتجسد إصدار “هاجس الماء والمرايا” في كونه ترسيخا لتجربة الشاعر وبيانا للتطور التصاعدي الملموس في مسيرته مع الكلمة على صعيد بناء القصيدة الشعرية ومساراتها ومواضعها المتعددة، كما يوجد هذا الإصدار ألق الحرف مع الشاعر البوسعيدي وإيجاد مساحة شعرية خاصة به.

أما الإصدار “كطائر يحلم بالمطر” فهو سفر شعري وصف في ماهيته احتواءه على أفقين شعريين رئيسين العمودي والتفعيلة مع الدهشة حيث وقع القصيدة، واستحضاره لصور مبتكرة، ودلالات عميقة اتخذت من الثنائية والمفارقة أداة للدهشة.

13