"السجون المصرية 1911".. شهادة حية من داخل سجن مصري

أحمد حلمي صحافي كشف تفاصيل معاملة الإنجليز للمساجين.
السبت 2021/03/13
قرية دنشواي لن تنسى جريمة المحتل الإنجليزي

يمثل كتاب “السجون المصرية 1911” لصاحبه أحمد حلمي إطلالة عميقة على نُظم الحبس في ظل الإدارة البريطانية المستعمرة لمصر آنذاك، وهو كذلك لتطور نُظم الحبس في بلد عربي كبير وما كان يواجهه المساجين من مشاكل صحية واجتماعية وإجرائية.

الحبس هو الحبس. خنق حرية، وتقييد حركة، وإرغام على العيش بنظام، والأكل بنظام، وممارسة الحياة بنظام. هو عقاب المجتمع الحديث مثلما يشير الفيلسوف ميشيل فوكو في كتابه الأشهر “المراقبة والمعاقبة” تتم به معاقبة الشخص المخالف للقانون، أو مَن يُسمى بالمُجرم بهدف ردعه، بدلا من وسيلة الردع القديمة المتمثلة في العقاب التعذيبي الذي ينتهي بالإعدام.

يُمثل كتاب “السجون المصرية في عهد الاحتلال” لصاحبه أحمد حلمي والصادر سنة 1911 أول شهادة وصفية دقيقة لنظم الحبس في العالم العربي الحديث، وهي شهادة تكتسب أهمية قصوى نظرا لتضمينها مشاهد مباشرة لصاحبها الصحافي المصري الذي اتهم بالعيب في ذات خديوي مصر عباس حلمي الثاني سنة 1908، وحُكم عليه بالسجن ستة عشر شهرا.

ويتيح الكتاب – الوثيقة للقراء معرفة جانب إنساني وأدبي واضح، إذ يستفيض في محاولة استقراء مشاعر المساجين أنفسهم تجاه فكرة تقييد الحرية نفسها، ومدى وعيهم وإدراكهم لحقوقهم والتزاماتهم في هذا الشأن وفق القوانين والاتفاقيات المعمول بها، فضلا عن قياس مدى تأثر الخارجين عن القانون بالعقاب، وبحث مدى قدرته على ردع الإجرام.

والمؤلف واحد من الصحافيين المصريين الأوائل المنسيين، رغم ما حققه من مجد كبير في زمنه، حيث كانت له صولات وجولات عديدة، واشتهر بجرأته وحدته في مواجهة الاحتلال والأسرة العلوية الحاكمة في مصر، ومقاومة الظلم والفساد بالكلمة، وهو جد الشاعر ورسام الكاريكاتير الراحل صلاح جاهين، لأمه.

ومازال اسمه موجودا حتى يومنا هذا على أهم محطة نقل بري في وسط القاهرة في ميدان أحمد حلمي.

الكتاب الوثيقة

شهادة وصفية دقيقة لنظم الحبس في العالم العربي الحديث

طبقا لكتاب الدكتور إبراهيم المسلمي أستاذ الإعلام بجامعة الزقازيق، شمال شرق القاهرة عن سيرة  حلمي، فإنه من مواليد شهر فبراير سنة 1875 بحي الحسين في القاهرة، وبدأ حياته كاتبا في دواوين الحكومة، ثم تعلم اللغة الفرنسية وعمل بالصحافة في صحيفة “السلام”، وكانت تصدر في مدينة الإسكندرية سنة 1900، ثم عمل في صحيفة أخرى نسائية باسم “الهوانم” قبل أن ينتقل للعمل بصحيفة “اللواء” التي أصدرها الزعيم المصري مصطفى كامل بدايات القرن الماضي.

ذاع صيت حلمي عندما سافر سنة 1906 إلى قرية دنشواي لينقل مأساتها للعالم، منتقدا المحاكمة الظالمة التي قامت سلطات الاحتلال بإعدام خمسة فلاحين مصريين بتهمة التسبب في وفاة جندي بريطاني.

وبعد وفاة مصطفى كامل عام 1908 اختلف حلمي مع علي فهمي مدير “اللواء” ليتركها ويصدر صحيفة جديدة باسم “القطر المصري”، ويكتب فيها بجرأة شديدة منتقدا نظام الحكم لحد قوله “إن مصر لم تستفد شيئا من أسرة محمد علي غير الشقاء والبلاء والظلم والضنك وضياع الحقوق”.

أدى ذلك، كما أوضح كتاب حلمي، إلى تعرضه للاتهام بالعيب في الذات الخديوية ليتم الحكم عليه بالغرامة وتعطيل صحيفته، ثم تتوالى الأحكام ضده.

تنقل حلمي بين عدة صحف، وترك عند رحيله سنة 1936 المئات من المقالات والقصائد الشعرية، وكتابا وحيدا هو الكتاب الذي لم يصدر مرة أخرى وظلت في دار الكتب والوثائق نُسخ محدودة مصورة بالميكروفيلم ليطلع عليها الباحثون والتعرف على حياة السجون في مصر الحديثة.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، يختص الأول منها بمشاعر المؤلف وتصوراته بشأن الحبس وتقييد الحرية، ويتضمن مناجاته لله لفك حبسه، ويتناول الجزء الثاني تاريخ السجون في العالم، بدءا من الحضارات القديمة وصولا إلى أوروبا الحديثة ثم البلدان الشرقية، مع حديث عن السجون المصرية، ووصف لها وللنظم المطبقة فيها، ثم يختص الجزء الأخير بقضيته هو ومحاضر النيابة وردوده عليها، وسرد للشهور التي قضاها في السجن، ثم استعراض لتقرير المفتش الإنجليزي بوزارة الداخلية المصرية عن السجون.

وكما هو معتاد في كُتب ذلك الوقت، حملت الصفحة الأولى رسما تصويريا لشخص يتعرض للجلد على هيكل خشبي مربوط إليه، وتحته كتبت عبارة “هكذا يجلد المسجونون إذا أذنبوا في السجن، فليتعظ الذين يميلون للإجرام من محبي أكل المال الحرام”، مع إضافة عبارة الطبعة الأولى 1911، ثم طبع بمطبعة النجاح بمصر.

أحمد حلمي ذاع صيته عندما سافر إلى قرية دنشواي لينقل مأساتها منتقدا إعدام سلطات الاحتلال لخمسة فلاحين

يُحلل المؤلف في أسباب إصدار كتابه، موضحا أن البلاد المتمدنة تزخر بشهادات المسؤولين والساسة والوزراء عما رأوه وعاينوه من أمور بغرض نفع الناس بها، مكررا أن أفضل شهادة تأتي ممن رأى وعايش، لذا فإنه يشير إلى أن كاتبة أميركية شهيرة، لم يُسمها، أرادت أن تكتب قصة ما عن شعور اللص عندما يسرق شيئا، ثم عندما يتم القبض عليه ومحاسبته، فارتكبت جريمة السرقة وأخبرت القاضي بذلك، فحكم عليها بسجن مخفف.

ورغم عمق وأهمية التوصيف الذي يقدمه الكاتب لما رآه داخل السجن، إلا أنه أبدى ربما جريا على عادة المؤلفين في ذلك الوقت، تواضعا مبالغا فيه، إذ يؤكد أن الكتاب بداية لمن يأتي من بعده ليكتب ويصف ويستعرض السجون وما يحدث فيها، بل إنه على يقين بأن “من يأتي بعدي سيكون أطول باعا وأوسع اطلاعا لطرح حقيقة السجون وأحوالها”.

ربما تأثر بمقولته كثيرون ممن دخلوا السجن في ما بعد، فأسهبوا في وصف وحكي ما يدور داخله، مثلما هو الحال مع بعض الفدائيين المصريين في ثورة سنة 1919 مثل عريان سعد يوسف، ومحمد مظهر سعيد، اللذين كتبا باستفاضة عن السجن.

ورغم اشتمال الكتاب على أبيات شعر عربية متنوعة للتعبير عن أوصاف معينة، إلا أن اللغة العامة الغالبة عليه هي لغة خفيفة سلسة أقرب للعامية المصرية، خاصة عندما يستعرض المؤلف شكل السجن وتخطيطه ووصف محتوياته وتفاصيل ما يدور فيه كل يوم.

يتحدث الكتاب عن وصف سجن مصر العمومي، وقال إنه نموذج لكافة السجون الأخرى، وهو مكان قابض للنفس من بدايته، إذ يقابل الداخل باب أسود واسع على جانبيه حديقة منقسمة قسمين وتعلوه نوافذ حجرة المأمور.

وصف دقيق

Thumbnail

يشتمل المبنى الرئيسي من الداخل على قسمين، أحدهما مبنى إداري عبارة عن دهليز مستطيل عرضه أربعة أمتار وفي الجهة اليمنى منه قاعة الحارس وفيها سجل يوميات السجن والذي يقيد فيه أسماء الداخلين والخارجين وأوقات دخولهم باليوم والساعة.

ويمتد من تلك القاعة دهليز ضيق ينتهي ببهو كبير منفتح على غرفة استقبال تسمى الإيراد ويتم وضع المساجين فيها فور دخولهم قبل توزيعهم على الزنازين (غرف الحبس).

وخلف الحجرة توجد قاعة “بلوك الخفر” وبابها مواز للباب العمومي وإلى جوارها تصطف دورات المياه ثم غرفة الغسيل والمبخرة حيث توضع ملابس المساجين لتطهيرها، وتوجد في الناحية الأخرى غرف الأسلحة. وهي كما رآها المؤلف بنادق عادية بسيطة.

الملاحظة الجديرة بالالتفات تخص غرفة للكتب تجاور مستشفى السجن وغرفة المأمور، وفيها كتب ومعارف باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.

وكانت الزنازين، كما هي الآن تماما، عبارة عن غرفة مربعة بها نافذة واحدة، ودلو صغير لاحتواء البول، وكوب ماء معدني للشرب، وحصيرة دون وسادة، ولا توجد مصابيح للإضاءة، ما يعني أن المسجون مجبر على النوم مبكرا لعدم وجود ما يفعله.

تبدو تلك الحياة شديدة الكآبة، كما رآها المؤلف الذي حمّل السلطات الإنجليزية المسؤولية عن المعاملة غير الإنسانية التي وصفها، لكن نقف كثيرا عند إشارات يُلمّح لها بشأن انتشار العلاقات الشاذة بين بعض المساجين نتيجة وضع الأحداث الصغار الأقل من ستة عشر عاما والخارجين عن القانون في زنازين المجرمين البالغين.

قال حلمي في كتابه “رأيت المراهقين محبوسين مع الرجال وجلهم من فاسدي الأخلاق فتسوء العقبى لذلك قد تفشى في السجون داء وبيل فهل بذلك إصلاح النفوس وتهذيبها”.

رحلة عذاب

مازال اسمه موجودا وسط القاهرة في ميدان أحمد حلمي

وصف حلمي رحلة السجين فور دخوله مُحددا البداية بعرضه على الإيراد، فإن كان مستجدا يتم وضعه بعنبر السوابق الصغيرة والجرائم البسيطة، وإن كان من معتادي الإجرام يوضع في عنبر المسجلين.

يُسلّم السجين فور دخوله إلى حلاق السجن الذي يقوم بجز رأسه فلا يترك فيه شعرة واحدة، ثُم يتم إدخاله الحمام للاغتسال وبعد خروجه يأخذ ملابس السجن، وهي إما صفراء داكنة لمن يقل حبسهم عن سنة سجنا، أو زرقاء لمن يزيد حبسه عن سنة أو سوداء لأصحاب السوابق والمسجلين، ثم يتم توقيع الكشف الطبي على السجين ووزنه بمعرفة طبيب، يكون في الغالب إنجليزيا.

ويحصل كل سجين على وجباته عبر كوة الزنزانة، وهي وجبة لا تتجاوز رغيف خبز وطبق فول في الإفطار، وفي الغداء رغيف وإدام لا يعرف أحد ما هو، ثُم في العشاء رغيف وبعض البهارات.

ومع هذا الوصف البائس، يُسمح للسجين بالتريض صباحا واستنشاق الهواء في الفناء، كما يُلزم كل سجين بالعمل في مهنة من المهن، فالبعض يقوم بتصنيع السجاد والبعض الآخر يعمل بحياكة الملابس والبعض بالنجارة.

كان نصيب مؤلف الكتاب خلال فترة سجنه تعلم مهنتي الحياكة وصناعة السجاد، والطريف أن كل مسجون يحصل على أجر مقابل عمله، فإذا ما أفرج عنه يُمنح كامل أجره، وهو ما حدث مع حلمي عند الإفراج عنه بعد ستة عشر شهرا، حيث قدم له مأمور السجن مبلغ 498 مليما كإجمالي أجور، بعملة ذلك الزمان، نحو نصف جنيه مصري، وكان هذا مبلغا جيدا.

ورغم حرص الحراس على النظافة العامة بصرامة شديدة، إلا أن هناك بعض الأمراض المنتشرة بين المساجين، وأكثرها شيوعا أمراض الصدر والروماتيزم وفقر الدم وضعف النظر.

مصر لم تستفد من أسرة محمد علي إلا بالشقاء والبلاء وضياع الحقوق

يبقى أطرف ما في الكتاب ما يحكيه حلمي من ممارسته لعمله الصحافي من داخل السجن، حتى أنه كان يكتب بشكل منتظم ويحقق في بعض ما يحدث بالداخل ويرسل ما يكتبه لينشر في صحيفته “القطر المصري” التي عطلت ثم عادت للصدور مرة أخرى.

المثير في الأمر أن مأمور السجن كان يتعرض للعقاب كل فترة بسبب كتابات حلمي، لقد كان يحكي عما يلاقيه بعض المساجين من سوء معاملة ويقدم حكاياتهم للرأي العام ليتم التحقيق فيها، ومنها اعتداء العساكر على أحد المساجين وضربه بالأحذية حتى فقد وعيه ونقل إلى المستشفى.

ومن أشهر من قابلهم السجين حلمي في محبسه وأجرى معهم حوارات صحافية كلا من حافظ نجيب المعروف بالأديب المحتال، والذي قدم الفنان محمد صبحي في ما بعد مسلسلا يحكي قصته بعنوان “فارس بلا جواد”، والشيخ عبدالعزيز جاويش الذي كتب مقدمة لديوان “وطنيتي” اعتبرت تحريضا ضد الإنجليز، وإبراهيم الورداني الذي قتل رئيس الوزراء بطرس باشا غالي سنة 1910 ونفذ فيه حكم الإعدام في 28 يونيو 1910، فضلا عن شرطي إنجليزي يُدعى جولد ستين اتهم بإطلاق الرصاص على قائد البوليس الإنجليزي بالقاهرة هارفي باشا.

16