"السبيل" تراث خيري مصري قضت عليه المدنية الحديثة

ينتاب الحكام هوس بتخليد ذكراهم في تاريخ دولهم، وهو الدافع الذي جعل حكام مصر منذ عصور الفراعنة يلتجئون إلى بناء الأهرامات، كما فكر من تلاهم في بناء القلاع والحصون. وبعد دخول الإسلام إلى مصر اتجه الخلفاء والسلاطين إلى تشييد المساجد والقيام بأعمال تفيد الناس، فبدأ سلاطين المماليك في إنشاء أسبلة المياه بهدف تسهيل حصول عامة الشعب على ماء صالح للاستعمال، لكن تطور المدن وتقنيات ربط وإيصال قنوات المياه إلى المنازل قضت على هذه الأسبلة التاريخية.
الاثنين 2015/12/14
سبيل محمد علي باشا طبع القاهرة بأثر خلد ذكراه

الأسبلة التي تحمل أسماء الحكام الذين بنوها انتشرت في الأماكن العامة والأزقة والطرقات في مصر، بهدف توفير مياه نقيّة طوال العام وهو ما أكده الباحث في الآثار الإسلامية محمد صلاح الدين لـ”العرب”، موضحا أن الحكام كانوا يبحثون عن أعمال تخلد ذكراهم بعد مماتهم، فشيّدوا الأسبلة وأطلقوا عليها أسماءهم وبعد ذلك جرى توارث عادة بناء الأسبلة بين الأغنياء خصوصا، كصدقة جارية ينالون عليها ثواب سقي مستعمليها وعابري السبيل.

وأشار الباحث إلى أن الماء كان كغيره من السلع التي تباع وتشترى، وأن الطريقة الوحيدة للحصول على مياه نظيفة للشرب كانت دفع مبلغ من المال لشخص يطلق عليه “السقا” الذي كان يجلب الماء من نهر النيل على ظهور الدواب، ثم يبدأ في توزيعه على البيوت بعد أن يدفع أصحابها مقابلا ماديا.

وأضاف صلاح الدين أن “السبيل لم يحم الفقراء فقط من الجفاف، بل رحمهم أيضا من جشع بعض السقّائين الذين يخلطون ماء النيل بمياه مالحة، كما أن الأسبلة كانت تستخدم لتخزين المياه الحلوة أثناء مواسم فيضان النيل، التي تمتد من أواخر شهر أغسطس إلى شهر أكتوبر من كل عام، عن طريق نقلها على ظهور الدواب وتفريغها في فتحة خاصة بأحد جوانب السبيل ليستخدمها المارة بقية شهور السنة مجانا، بعد أن ينخفض منسوب نهر النيل وتقل مياهه”.

ومعلوم أن بناء الأسبلة بدأ في العصر المملوكي، إلا أن الاكتشافات الحديثة تشير إلى أن “سقاية المارة” عرفت في العصور السابقة للعصر الفاطمي، لكن كعمل خيري تم وضع أوان فخارية في الطريق لعابري السبيل أو أحواض من المياه.

ويقول الباحث الأثري أحمد الصاوي لـ”العرب” إن هناك شبابيك من قلل متنوعة الزخارف ترجع إلى العصر الطولوني، كتبت على بعضها عبارات مثل “كُلْ هنيئا، واشرب مريئا”، مضيفا أن التوسع في إنشاء الأسبلة في شكلها المتعارف عليه كأبنية متعددة الأدوار كان في القرنين 17 و18 ميلادي، حيث وصل عدد الأسبلة المشيدة آنذاك إلى 66 سبيلا، وكانت إما ملحقة بمنشأة أخرى كالمساجد أو المدارس، أو مستقلة بذاتها في مواقع مركزية في المدينة، لكن في عهد الخديوي إسماعيل ومع تأسيس شركة مياه القاهرة الكبرى سنة 1869 وتمديد قنوات المياه إلى البيوت، لم يعد المصريون في حاجة إلى السبيل، فبدأ يندثر منذ القرن 19 الذي شهد تشييد 13 سبيلا فقط‏ حتى وصلت إلى أربع أسبلة في بداية القرن العشرين.

بناء الأسبلة بدأ في العصر المملوكي، إلا أن الاكتشافات الحديثة تشير إلى أن "سقاية المارة" عرفت قبل العصر الفاطمي

وعلى الرغم من مرور زمن طويل على إنشاء الأسبلة وتعرض أغلبها للإهمال والسرقة وتهالك العشرات من الأبنية النادرة منها، إلا أن واجهات ما بقي صامدا منها تكشف عن تراث معماري فريد، لما تتزيّن به من آيات قرآنية محفورة بطريقة مميزة تتناول أهمية الماء منها “وسقاهم ربهم شرابا طهورا”، أو “وجعلنا من الماء كل شيء حي”، وأيضا هناك عبارات شعرية مثل “يا وارد الماء الزلال الصافي.. اشرب هنيئا صحة وعوافي”.

الأسبلة التي أنشئت في العصر العثماني، كما أوضحت الباحثة في الآثار الإسلامية مروى حمدي لم تختلف في تصميمها المعماري عن مثيلاتها المملوكية، فكلاهما كان يتكون من طابقين أساسين، الأول عبارة عن بئر محفورة في الأرض ويسمى “الصهريج”، لحفظ المياه لمدة طويلة ويبنى بـ”الخافقي” وهي مادة تزيد الرطوبة من تماسكها، وكانت للصهاريج “خرزة” أي فتحة ينزل منها “المزحلاق” وهو القائم على أمر السبيل، لينظف الصهريج ويضيف إليه المواد المطهّرة.

أما الطابق الثاني فيرتفع عن سطح الأرض ويطلق عليه “حجرة التسبيل” أو “المزملة”، وهي مخصصة لملء أكواب الشرب للمارة عن طريق “المزملاتي” (شخص معين من قبل صاحب السبيل لرفع المياه من البئر يشترط سلامته من العاهات والأمراض الجلدية).

لكن الأسبلة المملوكية تميّزت عن العثمانية بملحق صغير فوق الجزء الأوسط المخصص لتقديم مياه الشرب يستخدم في تحفيظ القرآن “كُتاب” يصعد إليه عبر سلم يؤدي إلى غرفة الدراسة الواسعة المحاطة بشرفات متعددة لتجديد الهواء، لأن وظيفة السبيل في العصر المملوكي لم تقتصر على توفير المياهللمارة، بل تعدته إلى تعليم أبناء المسلمين من الفقراء واليتامى القراءة والكتابة وتحفيظهم القرآن.

الحكام كانوا يبحثون عن أعمال تخلد ذكراهم بعد مماتهم، فشيّدوا الأسبلة وأطلقوا عليها أسماءهم

وتراجع بناء الكتاتيب في العصر العثماني توازيا مع ازدهار شكل مختلف لبناء الأسبلة كما قالت شيماء هاني الباحثة في العمارة الإسلامية لـ”العرب”، حيث أطلق عليه السبيل (المصاصة)، وهو عبارة عن لوح من الحجر أو الرخام يحتوي على صنبور من النحاس، مثبت في الواجهة الخارجية للسبيل، وكان الغرض من إنشائه التوسّع في فعل الخير والطمع في المزيد من الثواب والدعاء، فجعلوه للفقراء من قاطني الحي وبذلك كان الأهالي يحصلون على مياه إضافية. ومن أشهر الأسبلة التي ظلت صامدة سبيل محمد علي باشا الذي كسّر به التقليد المعماري المملوكي، ليطبع القاهرة بأثر مختلف يخلد ذكراه وأسرته، وقد شيده عام 1820 صدقة على روح أحب أبنائه إليه الأمير طوسون باشا، الذي توفي قبل ذلك بأربعة أعوام. ويعد هذا السبيل نقطة تحول في معمار القاهرة الفاطمية، كما أوضح حارسه لـ”العرب” لأن الزخرفة الفنية المنحوتة على رخام الواجهة المقوّسة كانت جديدة آنذاك، وكذلك الأفاريز الخشبية البارزة الغنية بالنحت.

وأشار الحارس إلى بعض أوجه اختلاف السبيل عن غيره من الأسبلة المملوكية، منها أنه يتكون من طابقين دون كُتّاب، حيث تم استبداله بقبة مغطاة بالرصاص، باطنها مزخرف برسومات ونقوش نباتية متوجة بهلال لامع مطلي بالذهب، وكانت أبواب المدخل الرئيسي من البرونز الصافي. أما قضبان النوافذ فكانت مزخرفة ومغطاة بالذهب لإبهار المترددين عليه، وألحق بالسبيل مصلى لا يُعرف إن كان من نفس العصر أم أضيف في وقت لاحق.

حارس السبيل أشار أيضا إلى أن المياه كانت تجلب من النيل إلى الصهريج على ظهور الجِمال، وعن طريق عدد من العمال عيّنهم محمد علي خصيصا لهذا العمل. وفي ثلاثينات القرن العشرين أُهمل السبيل وأصبحت حجرات الدور الأرضي مدرسة للبنات وظلت مفتوحة حتى وقع زلزال 1992، وكان السبيل على شفا الانهيار فاستلمته وزارة الآثار ليتم ترميمه (1998-2002).

12