السبق والتخبط الرسمي يورطان الإعلام المصري في نشر الشائعات

وقعت بعض وسائل الإعلام المصرية في ورطة الأيام الماضية عكست عمق الأزمة التي تعاني منها بسبب تعاملها مع السبق الصحفي دون احترافية، والتساهل في نشر معلومات غير موثقة، ما وضعها في مأزق أمام الجمهور.
القاهرة - تسابقت صحف ومواقع إلكترونية وقنوات تلفزيونية مصرية في نشر معلومات وصفتها بـ”الحصرية” لموعد إعلان نتيجة الثانوية العامة (البكالوريا)، ثم خرجت وزارة التربية والتعليم لتنفي كل ذلك واتهمت هذه المنابر بأنها تنشر الشائعات.
وتسبب النفي الرسمي في حرج بالغ لوسائل الإعلام التي استسهلت البحث عن مجاراة هوس الجمهور بالبحث عن معلومات تخص نتيجة البكالوريا المصيرية دون توثيق الأخبار التي تنشرها، ما صب غضب الناس على الإعلام برمته.
وأظهر التخبط في نشر معلومات غير دقيقة ومضللة خطورة انجراف بعض الوسائل وراء نشر شائعات لتعويض ندرة المعلومات الرسمية في العديد من القضايا الحيوية.
وما أغرق بعض وسائل الإعلام في نشر وإذاعة معلومات غير دقيقة أن الجهة الحكومية (وزارة التعليم) التزمت الصمت أمام ما يثار ولم تراع قلق الناس على نتائج أولادهم وفضّلت عدم مجاراة الإعلام في البحث عن معلومات حصرية لتهدئة الشارع.
ويتعامل المجتمع المصري مع نتيجة الثانوية العامة بخصوصية شديدة، لأنها محل اهتمام كل الأسر التي لديها طلاب في هذه المرحلة، حيث تتعامل معها على أنها عنق الزجاجة أو المحطة الأهم للالتحاق بالجامعات وفرص التوظيف مستقبلا.
وتتهم بعض وسائل الإعلام من جهات رسمية بأنها تصنع حالة قدسية مجتمعية لنتيجة الثانوية العامة، وتقوم بترويع الناس وجعلهم يتعاملون مع كل ما يخص هذه المرحلة بقلق وترقب، مهما كانت رسائل الحكومة مطمئنة.
وتُعتبر فترة امتحانات البكالوريا وإعلان نتيجتها موسم رواج بالنسبة إلى الكثير من وسائل الإعلام من حيث معدلات القراءة، وبسهولة يمكن لأي صحيفة أو موقع أو برنامج أن يحقق مراده في الحصول على نسبة مشاهدات عالية بالتركيز على هذا الملف فقط.
ويعاني صحافيون معنيون بتغطية ملف التعليم في مختلف وسائل الإعلام المصرية من ضغوطات كبيرة من رؤسائهم للحصول على معلومات حصرية ونشر أخبار كثيرة، ولو لم تكن موثقة، المهم أن تتم مجاراة بحث الرأي العام عن تفاصيل جديدة.
وطوال أسبوع كامل مضى لم تنشر وسيلة إعلامية موعدا حقيقيا لإعلان نتيجة البكالوريا، وكل منبر اختلف عن الآخر في المعلومات المتاحة للجمهور، على مستوى نسب النجاح وأعداد الراسبين، أو حتى موعد ظهور وزير التعليم للإعلان.
وقال محمود (ع) وهو صحافي متخصص في ملف التعليم بصحيفة كبرى إن المسؤولين بالجريدة طلبوا منه نشر ما لا يقل عن عشرة أخبار يوميا، تكون جديدة وحصرية، عن نتيجة البكالوريا لمجاراة هوس الجمهور.
وأضاف لـ”العرب” أنه لم يكن أمامه سوى إعادة تقديم المعلومة بصورة جديدة ومختلفة عبر تحريف المضمون ونشرها للجمهور بزعم أنها حصرية وتمثل سبقا صحفيا، مع أنه يُدرك تماما عدم الثقة في حقيقة المحتوى الخبري المقدم.
ولجأ بعض الصحافيين إلى التعاون مع بعضهم لتبادل الأخبار ونشر معلومات غير موثقة يوميا، وإذا تعرض أحدهم للتكذيب يجد حجة بأن صحفا أو مواقع أخرى نشرت نفس المعلومات، بالتالي يحمي نفسه من تهمة التزييف.
ويعكس ما يحدث في الإعلام المصري من تعامل خاطئ مع السبق الصحفي لأي درجة صارت المهنية مفقودة، حيث تبدو آخر ما يبحث عنه أي منبر، المهم جذب الجمهور بكثافة حتى وصل التنافس بين بعض الصحف على الكم وليس الكيف.
وتعاني وسائل الإعلام من تضييق مبالغ فيه على مستوى حظر التطرق إلى الأخبار المثيرة والشاذة أو استباق التحقيقات في أي قضية، وعدم الاقتراب من ملفات بعينها، لذلك تتعامل مع أي ملف بعيدا عن المحظورات باعتباره مستباحا بأي معلومة.
وثمة مشكلة أكثر تعقيدا ترتبط بأنه أمام صمت الجهات الرسمية عن تقديم المعلومات في ملف حساس وجماهيري مثل نتائج البكالوريا باتت غالبية البرامج التلفزيونية تعتمد على الصحافيين المختصين في الملف لمعرفة الحقيقة، مع أن هؤلاء ليس لديهم معلومات موثقة قاموا بنشرها في صحفهم، وانتقلت الشائعات من منبر واحد إلى عدة منابر.
وقال صفوت العالم أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة إن ما يحدث من تكرار لنشر الشائعات حول بعض القضايا الجماهيرية يعكس إخفاق الكثير من المنابر في فهم طبيعة السبق بسبب تراجع المستوى المهني، فمن المفترض أن تكون المعلومة المنشورة في صحيفة أو مذاعة عبر برنامج موثقة بأدلة.
وأوضح لـ”العرب” أن الإعلام المصري عليه استغلال الأحداث الشعبية لتعزيز دوره وتقديم نفسه كصدى للحقيقة لا مجاراة هوس الناس حول معلومة مبتورة أو غير صحيحة، وليس دور الحكومة أن تنصاع للإعلام، وعليها حسم كل شيء عمليا وبصورة سريعة، والأهم أن يكون المجتمع نفسه واعيا للتفرقة بين الحقيقة والشائعة والبحث عن المصدر الرسمي للمعلومة.
التخبط في نشر أخبار غير دقيقة أظهر خطورة انجراف الإعلام وراء نشر شائعات لتعويض ندرة المعلومات الرسمية
وما يلفت الانتباه أن بعض الصحف التي يفترض فيها المصداقية والرصانة والمهنية وتحري الدقة ونشر الحقيقة سقطت في مجاراة الشائعات، وتسابقت مع منابر حديثة في كسب أكبر عدد من الشغوفين بمعرفة كل جديد عن أي حدث شعبي، وصارت الحكومة تعاني أزمة في البحث عن منبر ذي ثقة تخاطب من خلاله الناس.
ويرى خبراء إعلام أن بعض الجهات الحكومية تتحمل الجزء الأكبر من فوضى المعلومات والمغالطات التي أصبحت تضرب العديد من وسائل الإعلام، وهذا لا يعني أن تتجرأ صحف ومواقع على نشر أخبار كاذبة والتركيز على محركات البحث على شبكة الإنترنت واستغلال الأحداث الهامة لخداع الجمهور بمعلومات مزيفة.
وهناك فريق من الخبراء يدافع عن صمت الجهات الرسمية بذريعة وجود معلومات حساسة يجب عدم نشرها أو إتاحتها للنشر إلا في توقيتات محددة، كي لا تتسبب في غضب الجمهور، والمشكلة في عدم تفهم الإعلام لطبيعة العمل داخل الجهاز البيروقراطي وقت الأحداث المهمة التي تشغل الشارع، مع أنه يفترض في المختصين في الملفات المهمة أن يكون لديهم حس سياسي لطبيعة الموقف.
ويرى متابعو الأخبار غير الدقيقة في الإعلام المصري أن غياب التحقق من المعلومات إشكالية مسيئة لسمعة المهنة ولا بديل عن تدخل صارم لإنهاء الفوضى قبل أن تجد وسائل الإعلام نفسها في منافسة غير نزيهة مع شبكات التواصل الاجتماعي والسباق حول نشر الشائعات، فتفقد الحكومة منابر يفترض أن تكون وسيطا بينها والناس.
ومن غير المتوقع أن يصل الإعلام في مصر إلى مستوى مرتفع من المهنية في أي ملف، طالما أن السياسة والاقتصاد لا يتم الاقتراب منهما بحياد في غالبية الصحف والمواقع والبرامج التلفزيونية خوفا من التعرض للمساءلة والمحاسبة، ما يعكس استسهال نشر معلومات خاطئة حول قضايا لا علاقة لها بالمحظورات وشغل الرأي العام.