السبسي والنهضة والشاهد.. والتونسي الميال للسلطة بطبعه

النهضة تبحث عن شريك قوي تستطيع السيطرة عليه، وهي اليوم تدعم يوسف الشاهد لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الكبرى المفروضة من قبل الجهات الأجنبية المانحة، وكذلك من قبل قوى غربية تتصارع على المنطقة ككل وليس على تونس فقط.
الأربعاء 2019/01/30
من يكون على رأس الشلطة هو من يستطيع خوض أي انتخابات

 “التونسي ميّال للسلطة” إشارة واضحة من الرئيس التونسي في مقابلته الأخيرة مع صحيفة “العرب”، تكفي لاستقراء نظرته لما يدور حاليا في المشهد السياسي خاصة بعد الإعلان عن إطلاق “تحيا تونس”، الحزب الجديد الذي يقف وراءه رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزراء ونواب برلمانيون ومستشارون بلديون وقياديون سابقون من حزب حركة نداء تونس الذي كان الرئيس السبسي قد أسسه عام 2012 لإحداث توازن سياسي في ظل سيطرة الإسلاميين على السلطة والشارع بعد انتخابات أكتوبر 2011، ومن أجل الحفاظ على مقومات وأسس دولة الاستقلال بمدنيتها، وعلمانيتها غير المعلنة، وسعيها إلى تحديث المجتمع.

قال الرئيس التونسي “بصفة واقعية النداء تراجع، لكن بفعل فاعل. التونسي ميال للسلطة، سواء كان نائبا أو مواطنا. لكن السلطة الحقيقية في يد رئيس الحكومة وليس رئيس الجمهورية وفق الدستور. وما دام رئيس الحكومة لقي سندا كبيرا من حركة النهضة، وهي تسيطر عليها حتى أن الغنوشي مثل تونس في دافوس ومعه الكاتب العام للنهضة ورئيس الحكومة”.

الواقع أن حركة نداء تونس كانت ظاهرة سياسية لافتة، فبعد عامين من تأسيسها فازت بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وكان السبب الأول للفوز هو إعلان السبسي أنه يسير في خط مواز لحركة النهضة، وأنهما لا يلتقيان، ولكنهما التقيا في وفاق حكومي، له دافعان أساسيان: الأول أن نتائج الانتخابات جعلت النداء في المركز الأول داخل البرلمان بـ86 مقعدا والنهضة في المركز الثاني بـ69 مقعدا، بما يعني أنهما يحتاجان إلى تحالف لضمان الأغلبية البرلمانية التي ستمكنهما من إدارة شؤون البلاد، ومن كان ينظر إلى المشهد من بداياته، كان لا بد أن يقتنع منذ تأسيس النداء بأنه سيتحالف لاحقا مع الإسلاميين نظرا للتقارب الكبير من مشروعيهما الاقتصادي والسياسي، وخاصة في ما يتعلق بالإصلاحات المالية والاقتصادية والعلاقات مع المؤسسات والدول المانحة، وكذلك في العلاقات مع عدد من العواصم الغربية، وعلى رأسها واشنطن التي كانت تدعم دمج الإسلاميين في الحكم منذ ما قبل عاصفة ما سمي بالربيع العربي.

وما أشار إليه السبسي من مشاركة زعيم النهضة راشد الغنوشي للمرة الثانية في مؤتمر دافوس، يدخل في هذا السياق، حيث أن إسلاميي تونس، كنظرائهم في المنطقة، يقدمون أنفسهم على أنهم مندمجون تماما في اقتصاد السوق والليبرالية الجديدة وفي التحالفات المعلنة مع رأس المال حتى وإن كان على حساب الطبقات المنهكة والمحرومة، وهو ما تبين من مواقف نوابهم في أكثر من مناسبة داخل البرلمان، ومن دعمهم لرئيس الحكومة في تنفيذ الإصلاحات المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي والتي ترفضها النقابات.

الخلاف بين نداء تونس والنهضة كان بارزا بالأساس في ما يخص الجانبين الاجتماعي والثقافي، وهو ما يمكن فهمه من طبيعة المناطق والفئات التي صوتت بقوة للنداء أو للنهضة، فالمجتمع التونسي وإن كان يبدو ظاهريا متجانسا، إلا أن الخطاب الذي راج وانتشر بعد الإطاحة بالنظام السابق، خلق تباينات واضحة بين التونسيين، حيث وإن عادت البورقيبية بقوة إلى الواجهة، فإنما لتكون وقاء من طفرة العداء لدولة الاستقلال والذي حركته قوى الإسلام السياسي التي جاءت لا لتكون بديلا عن النظام السابق، وإنما للدولة التونسية بأكملها، لذلك اتجهت لإدانة بورقيبة ودولته بإعادة إحياء الصراع مع صالح بن يوسف عام 1955 والمحاولة الانقلابية لعام 1961 والنزعات الجهوية والمناطقية والتباينات الثقافية والاجتماعية حول التعليم والأحوال الشخصية والحريات العامة والخاصة وغيرها.

كانت البورقيبية مدرسة سياسية ولكنها لم ترتق إلى مستوى العقيدة الأيديولوجية، عكس المشروع العقائدي العابر للحدود الذي جاء به الإسلاميون، والذي اتخذ من البراغماتية ركابا لتحقيق أهدافه، وإن كانت النهضة قد وعدت السبسي وحزبه بضمان استمرار التوافق، إلا أنها لا تعترف كثيرا بالالتزامات الأخلاقية، وعملت بكل قوة على اختراق نداء تونس من الداخل، وذلك عبر الإيحاء لقيادته بضرورة التخلي عن أعدائها الاستئصاليين، لتنطلق سلسلة الانشقاقات التي أدت إلى تشكيل أربعة أحزاب من صلب النداء، كان خامسها “تحيا تونس”.

قيادة الحركة تدرك جيدا أن الواقفين وراء، أو مع، الشاهد يضمرون لها ما لا يظهرون

اختارت النهضة أن تتخلى عن تعهداتها السابقة مع الرئيس السبسي، لتضع يدها في يد يوسف الشاهد، الشاب الذي كان الرئيس قد دفع به إلى رئاسة الحكومة بعد تراجيديا الإطاحة بحكومة الحبيب الصيد في صيف 2016، ليكون أخطر انقلاب داخل حزب نداء تونس من قبل من كانوا يتدافعون على إبداء الولاء لقيادته عندما كان حاكما، وتخلوا عنه عندما انهار بناؤه، وانكسرت شوكته داخل مجلس نواب الشعب لتصبح حركة النهضة في صدارة الكتل البرلمانية، ثم تشكلت كتلة “الائتلاف الوطني” لتدعم الشاهد بدعوى سيطرة حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس، على ما تبقى من نداء تونس، للتحالف مع حركة النهضة ذات التأثير الأبرز تحت قبة البرلمان، من أجل دعم رئيس الحكومة الذي يمتلك مقاليد الحكم الفعلي وفق نص الدستور.

يقول السبسي “الشاهد يريد أن يبقى في السلطة فقال إن عنده خلافا مع النداء. لا أعتقد أن هذا الأصل، النهضة فهمت طموحه وتعاملت معه بذكاء ودفعته إلى تكوين حزب جديد يشاركها الحكم بعد انتخابات 2019 وراشد الغنوشي سيدعمه في السرّ ليترشّح لرئاسة الجمهورية. هذا لم يعد خافيا على أحد في تونس”.

الواقع أن النهضة تبحث عن شريك قوي تستطيع السيطرة عليه، وهي اليوم تدعم يوسف الشاهد لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الكبرى المفروضة من قبل الجهات الأجنبية المانحة، وكذلك من قبل قوى غربية تتصارع على المنطقة ككل وليس على تونس فقط، وعلى رأسها بريطانيا عرّابة تلك الإصلاحات وصاحبة الدور الكبير في كواليس قصر الحكومة، وذات العلاقة الوطيدة بالإخوان وعموم قوى الإسلام السياسي، ولكن قيادة الحركة تدرك جيدا أن الواقفين وراء، أو مع، الشاهد يضمرون لها ما لا يظهرون، وأن ما يجمع حول “تحيا تونس” اليوم، هو ذاته الذي كان يجمع حول “نداء تونس” في 2014، من رغبة في تحييدها عن المشهد العام، وبالتالي فإن لا أحد يضمن أن يستمر التوافق بين الطرفين حتى الانتخابات القادمة، خصوصا وأن حركة النهضة كانت قد دعت في أكثر من مناسبة يوسف الشاهد إلى التعهد بعدم الترشح للاستحقاق الانتخابي، لأنها بدورها ترى أن التونسي ميال للسلطة، وأن من يكون على رأسها هو من يستطيع خوض أي انتخابات بأمل كبير في الفوز، فالعقلية التونسية لم تختلف كثيرا عما كانت عليه قبل 2011.

هنا، لا بد من الوقوف عند الباب الذي تركه الرئيس السبسي مواربا في علاقته بالنهضة سواء عندما قال حول ملف الجهاز السري الإرهابي “لو كنت أنا النهضة لكنت عملت على إثبات أن هذا الأمر غير موجود، لكن نحن ليس لدينا موقف معاد أو متحمس لهذا أو لذلك. نحن نتحمس للحقيقة لأنها ذات فائدة للجميع”، رغم أن هناك معطيات جدية تدين الحركة، أو عندما تحدث عن راشد الغنوشي بالقول “لست ضد الغنوشي. علاقتي به كأي تونسي. كانت هناك علاقات مميزة وعندي تقدير له. أرى أن من حق النهضويين أن يشاركوا في الحياة السياسية بعد الاعتقال والسجن. لكن علاقتي بالغنوشي ليست خاصة، إذا اتصل بي أجيب على اتصاله كما أجيب على اتصال أي كان”، وهو موقف تقرأه النهضة من منظور إيجابي، خصوصا وأن اللقاءات بين الرجلين لم تنقطع حتى في ظل القطيعة المعلنة.

يبقى أن الرئيس السبسي لم يتخذ بعد قراره في ما يخص الترشح لعهدة رئاسية ثانية، وهذا ما يستشفه القارئ، مع ترجيح لكفة الترشح في حالتين: الأولى أن ينتظم المؤتمر الانتخابي لحركة نداء تونس خلال مارس القادم في ظروف إيجابية تتجاوز الإشكالات القائمة فيه ومن حوله وخاصة في ما يتعلق بدور نجله حافظ. والثانية تتعلق بحصول تحول في موقف النهضة من يوسف الشاهد واستبعاده من السلطة وتشكيل حكومة كفاءات تضمن نزاهة الانتخابات وعدم الاستقواء بالحكم في التنافس على نتائجها، خصوصا في ظل التسريبات حول تعبير الغنوشي للسبسي عن استعداد حركته لدعمه في الرئاسيات، وهو ما لا يراه السبسي مجديا في ظل عجز قيادة النهضة عن التأثير في قناعات أنصارها، مستشهدا بذلك في سباق 2014 عندما وضع الإسلاميون كل بيضهم في سلة منافسه المنصف المرزوقي.

السبسي يريد من النهضة فقط أن تتخلى عن الشاهد الذي بدا قويا بحزبه الجديد، لأنه يدرك أن أغلب من اتجهوا إلى “تحيا تونس” سيعودون إلى نداء تونس عندما يرفع عنهم غطاء السلطة في قصر القصبة.

9