الرومانسيون والواقعيون.. أجنحة متكسرة في مواجهة خطى متعثرة

تجاوزت ثنائية الرومانسية والواقعية، النزعة الفردية والمزاج الشخصي، ووقعت في براثن الاستقطاب السياسي والأيديولوجي بين المعسكر الاشتراكي من جهة، والليبرالي من جهة ثانية، ونشأ نوع من الحروب الفنية بين المدرستين، ففي عام 1968 قدمت السينما الأميركية في إنتاج ضخم فيلم “روميو وجولييت” للإيطالي فرانكو زيفيريلي، ولكن المبارزة بالسيوف عادت بالمسدسات والمدافع الرشاشة، كدليل على أن العصر قد تغير، وتلى ذلك بعد عامين فيلم “قصة حب” للأميركى إريك سيجال، وفي المقابل جاءت أفلام ما يعرف بالواقعية الاشتراكية لتروّج لمفهوم البطل الواقعي والإيجابي، بنزعة لا تخلو من الرومانسية الثورية والموجّهة، كأفلام “عشرة أيام هزت العالم” و”الأم” وأعمال أخرى.
وفي الألفية الجديدة ـ وبعد سقوط جدار برلين ـ أطلت الرومانسية برأسها من جديد مع تنقيحات واقعية لا بد منها، وظل العالم العربي يستهلك الواقعية والاشتراكية على حد سواء ويهضم النزعتين بطريقته.
الرومانسيون لا ينقرضون (إلاّ إذا أبادهم الواقعيون)، والواقعيون يتمدّدون مع اكتساح النزعات المادية كل مظاهر الحياة، ولا يختفون إلاّ بقيام “ثورة رومانسية”، ولعلّ خير ما يدلّل على ذلك ما خص به أحد الكتاب هذه الصفحة من الجريدة بقوله في نص يمزج بين الحساسيتين، ويقول في بعض سطوره “ما معنى أن أطرق باب بيتكم وأستعير مكواة أو ملحا أو فردا للتبخيش(آلة ثقب) في منتصف الليل دونما سبب، ما معنى أن أحاور أباك في العولمة والفوتبول وغلاء المعيشة، وهو بكامل شواربه وجلاّبيته وأرجيلته، ما معنى أن أنصت إلى أمكِ السّمينة وهي تفصفص البزر وتشتُم جاراتها وأشرار المسلسلات، ما معنى أن يسألني خالك عن مصروفي اليومي دون أن أسكب كأس الشاي الساخن على قميصه الزهري، ما معنى أن أبتسم إلى أخيك الصغير وأثني على ذكائه وهو يعبث بموبايل ويغنّي لنجوم الكليبات، ما فائدة أن أحبك وأنا كاره لنفسي ووقتي، خجل من نزواتي، وغير واثق من صحّة كلامي، ما فائدة الكلام عن العشق في زمن الاكتفاء بالحديث عن العشق، ما قيمة الخرافة دون تصديق، وما قيمة كتاب لا يتذكّر عنوانه عمّال المطابع، كيف لي أن أحبك دون أن تبلّل السماء راحات قومي في صلاة الاستسقاء؛ ودون أن أراوغ وأكذب، وأدّعي بأنّي مشغول بقضايا كبرى ومصيريّة.
إليَّ بفيلم خرافي كي ندخل صالة عرضه سويّا وتشتاق يدي إلى يدك في الظلام سويّا، ونبكي على أبطاله بعد نهايته سويّا، إليَّ بأمطار نقيّة كي نركض تحتها طويلا، وفي شارع نظيف دون حفر، إليَّ ببيت فسيح كي أطاردك بين أثاثه وحدائقه وزواياه.
إليَّ بنادل مطعم أو ناطور بناية يحيّي العشّاق كما في الروايات والأفلام دون احتيال، إليَّ بفرس أبيض دون حدوات، يركض فوق الزفت دون انزلاق، ودون أن يجفل من صافرات الشرطة والشاحنات. إليَّ برواة ثقاة يخبّرون الأجيال عن حبّنا دون أن يتّهمونا بالابتذال والسوقيّة والعمالة للأجنبي. قد يعجبني الآن أبوك وهو ينفث دخان أرجيلته في وجه الفراغ، وتعجبني أمّك وهي تسخر من خرافة النحافة بالأكل والمسلسلات بعد سنين الزواج، كما قد يعجبني أخوك الصغير وهو يمارس الحداثة ببهجة وانشراح، أمّا قميص خالك الذي ما ينفكّ يسألني عن راتبي ونوعيّة سجائري، فلا يعجبني أبدا”.
الحياة قاسية دون خيال وأحلام
|
يعترف جميع كبار السن ـ وحتى متوسطي العمر ـ في العالم العربي، أنّ العصر الذهبي للرومانسية كان قد انتهى منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكأنهم يقرنون هذه المرحلة بكلاسيكيات الأبيض والأسود، وما تحمله رمزية هذين اللونين من وضوح وتضاد، وأناقة أيضا.
تتفق دراسات شبه موثقة، على أنّ المرأة أكثر ميلا لهذه الطبيعة العاطفية الحالمة، والتي اصطلح على تسميتها بالرومانسية لدى العامة، دون التوقف عند مفهومها المعرفي الأعمق، ويوعزون ذلك إلى أسباب وعوامل بيولوجية واجتماعية وتربوية تتعلّق بالثقافة السائدة، ولعلّ أهم هذه الأسباب، هي آلية الدفاع والهروب أيضا من التركيبة البطريركية السائدة، وحالات القهر المسلطة ضدها في العالمين العربي والإسلامي، لكنّ دراسات حديثة تفنّد هذا التعميم وتجعل الأمر متساويا بين الجنسين، من حيث الاستعداد النفسي والبيولوجي فتربط الأمر بالخيار المعرفي والميول الفني المحض.
أغلب الذين ينتصرون للرومانسية، يشتركون في سمات تكاد تكون متشابهة، وهي الطبع الهادئ، والميل إلى العزلة والانطواء، كما لا يمكن إغفال المنبت الريفي لدى الكثيرين منهم وما يعنيه من تعلّق بالطبيعة، وكذلك الخلفية الاجتماعية التي جاؤوا منها، إذ لاحظنا أنّ نسبة كبيرة من الرومانسيين قادمة من بيئات فقيرة أو متوسطة، دون إغفال المدللين من الميسورين أيضا.
أغلب الرومانسيين عانوا من هزات وصدمات حياتية، كما أنهم ميالون إلى حالات الحزن والشجن، لكنّ غير المتعمّق في سلوك ونمط تفكير هؤلاء، يلاحظ بعض التناقض الذي يبدو صادما في نزوع هذه الفئة نحو حالات الغضب العنيف، والذي يوصف بالجنون أحيانا، فهم لا يعترفون بالمعقول، لأن الرومانسية لا يمكن أن تكون عاقلة وهي ناتجة أصلا عن رغبة في الجنون، حتى قال أحدهم “لا يمكن أن تعطي تعريفا للرومانسية دون أن تكون مجنونا”، وهو ما يذكرنا بأحد أكبر رموز الأدب الرومانسي العربي جبران خليل جبران ومؤلفاته ذائعة الصيت، مثل “المجنون” و”العواصف” و”الأجنحة المتكسرة”.
الواقع مقياس كل شيء، منه وإليه يعود الإنسان في مسيرته الحياتية والوجودية، وما عداه ضلال وتضليل للذات والآخر
ولا تخلو قصص الحب الرومانسي ـ كعادتها ـ من نهايات حزينة ومفجعة مثل قصة الشاعرة السورية الراحلة (د ح)، سألنا عن سبب ما حلّ بها من اضطراب في السلوك، فقيل لي إنّها كانت تعشق شاعرا يكمل دراسته في موسكو، وكان الاثنان يتبادلان رسائل الشوق والوعود، ذهبت لاستقباله في المطار بعد إتمام دراسته، وبعد انتظار طويل، فوجئت بظهوره مع أطفاله وزوجته الروسيّة، مرّ من أمامها دون أن ينتبه حتى لوجودها، حدث كل هذا إثر مزحة ثقيلة من أصدقاء الاثنين حين كانوا يكتبون لها رسائل الغزل باسمه، ودون علم منه.
“عيشة” قصة أخرى من قصص الحب في الشام، ولولا بعدها الرومانسي لما خلّدت في إحدى المسرحيات، فلقد وعدها حبيبها بانتظارها عند موقف الترامواي (أيام الترامواي) في تمام الساعة الثانية والنصف قصد الزواج، والهروب من جحيم والدها المتغطرس، لبست فستانها الأبيض الملطّخ بالتوت تحت المعطف الأسود، حملت قرنفلة حمراء وانتظرته.. مازالت (عيشة) تنتظر الساعة الثانية والنصف حتى اليوم، منذ ما يقارب الخمسين عاما.. مات الأب، واختفت سكّة الترامواي تحت زفت الطريق، ذبلت القرنفلة وتيبّست .. لكنّ بقعة التوت مازالت طريّة وتنتظر.. قيل ـ والعهدة على الراوي ـ إنّ حبيبها قد عاد، طرق الباب كثيرا، لكنّ عيشة لم تفتح له، ظنا منها أنّ السلطات قد جاءت لتأخذها إلى مستشفى الأمراض العقلية. الرومانسيون حالمون بالتأكيد، ولكن بماذا يحلمون؟ ربما بالتقاء شريك واقعي.
القمح أنفع من الورد
|
الذين يقدمون أنفسهم كواقعيين يبدأون حديثهم بالتهجم على الرومانسية والرومانسيين، وكأنّ الأصل في نظرهم أن تكون واقعيا، والشاذ أن تصنف كرومانسي، أي في خانة المريض الذي ينبغي معالجته، وهم في ذلك يحشدون شتى الأقوال المأثورة للتدليل على صحة رأيهم، وحتى تلك التي قالها منظرو الرومانسية ومؤسسوها، كاستشهادهم بالكاتب الألماني غوته في قوله إن الرومانسية “مرض وضلالة مهلكة”، كما عرفها ووتر هاوس بأنها “جهد للهروب من الواقع”، ولعلّ أخطرها هي عبارة أحد المفكرين الألمان “الرومانسية طغيان الفن على الحياة”.
أصحاب هذا المبدأ يرون أنّ الواقع مقياس كل شيء، منه وإليه يعود الإنسان في مسيرته الحياتية والوجودية، وما عداه ضلال وتضليل للذات والآخر. كل الأفكار الخالدة، هي تلك التي تنطلق من الواقع وتعود إليه، أمّا الهروب نحو الرومانسية، وإن كانت ذات نزعة ثورية، فهي شكل من أشكال الكذب على الواقع بدل السعي لتغييره أو حتى الارتقاء به. ليس من الواقعية أن نصنف الواقعيين في خانة واحدة، فالخلفيات الاجتماعية والأيديولوجية، لها تأثيراتها في قراءة الواقع، حتى أنّ بعض ذوي الفكر المتشدّد يعادون الرومانسية على اعتبارها نزوعا نحو تمجيد الفردانية وتمردا على الواقع ونصوصه التشريعية.
أما اليساريون فيقرؤون الواقعية ويمجدونها من منظور جدلي، مستندين إلى مبدأ الصراع الطبقي وحتمية انتصار الفئات الكادحة التي ستؤسس دولتها وفق مصالح الطبقة العريضة وبناها الفوقية، دون أن يغفلوا عن انتقاد رفاقهم الحالمين ويتهمونهم بالرومانسية الثورية، كما يعتبر الكثير منهم العلاقات العاطفية تمييعا لاستحقاقات الواقع وقفزا على سلم الأولويات، يقول كريم (محام، 48 عاما) “عشت مراهقتي رومانسيا حالما، يعتقد أن الحياة في مكان آخر، حتى كدت أخسر دراستي وأضيع حياتي، ثم عشت صدمة عاطفية جعلتني أصحو من غفوتي ولا أتعامل إلاّ مع الواقع، وبفضل ذلك حققت ما أنا عليه الآن”.
الرومانسيون لا يعترفون بالمعقول، لأن الرومانسية لا يمكن أن تكون عاقلة، وهي ناتجة أصلا عن رغبة في الجنون
لم أكن أقصد من وراء هذه الإشاعة إلاّ جسّ نبض جارتنا الصبيّة التي كنت أحبها بجنون، ففي اليوم التالي، فاجأت جمهور المعزّين بحضوري، وذلك بعد أن ‘استمتعت’ لبكاء جارتنا الصبيّة، أرضيت غروري وأنا أتلصّص عليها من بعيد، عانقتني في البداية، مبتهجة لسلامتي، بادلتها العناق الذي لم يدم طويلا.. لقد عادت لعنجهيتها وعدم المبالاة بمغازلاتي العابرة، وعدت بدوري إلى شرفتي، وأغاني مارسيل خليفة وعبدالحليم حافظ”.
برامج تلفزيون الواقع جاءت لتفضح الرومانسية الكاذبة، وشدّت جمهورا كبيرا إليها بسبب حاجة الناس إلى الصدق والواقعية، بعد أن ملّوا الرياء والكذب وتزوير الحقائق، بنظر الكثير من الدارسين، ويضيف أحدهم أنّ الواقع أكثر صدقا وأغنى خيالا وأمتع معايشة ـ رغم قساوته ـ من الرومانسية المضللة، فالواقعي يعطيك خبزا، أو يمكنك من عمل، أو يساندك في احتجاج، أمّا الرومانسي فيقول لك “تحمل الجوع على أنغام البيانو، أو لماذا لم تأكل الكيك؟” كما تساءلت ماري انطوانيت عشية الثورة الفرنسية.
أغلب شباب الجيل الجديد يصف نفسه بالواقعي، ولا يخفي استهزاءه بالرومانسية، معتبرا إياها ضربا من الماضي الذي كانت تنعدم فيه وسائل الاتصال الحديث، فيركن الناس ـ بنظر أحد الشبان الجامعيين ـ إلى العيش في الحلم، ويضيف “الآن وقد أصبح الحلم واقعا، فلماذا نشغل أنفسنا بالأوهام، هل حقا يجد هؤلاء الرومانسيون وقتا لذلك؟ وبدل أن تحلم، تعال وحقق حلمك. “الواقع في نظر شاب آخر يجلس عاطلا في المقهى شديد القتامة، ولا تغيره الرومانسية بالتأكيد، بل شيء آخر” وظل شاخصا بعينيه أمام جهاز التلفزيون وهو يبث أخبار الكوارث.