الرواية الجزائرية خير سفير للرواية العربية ما بعد الكولونيالية

هل تمثل رواية ما بعد الكولونيالية اتجاها واضحا في السرد العربي.
الأحد 2023/06/25
هل سردْنا ما فيه الكفاية عن الاستعمار

يشير الفيلسوف والأديب الفرنسي الشهير جان بول سارتر (1905 – 1980) في كتابه المهم “ما الأدب؟” إلى أن الأدب هو كل نص نثري، وأن الشعر كالنحت والموسيقى والرسم لا يُمكن استخدامها لفهم الحقيقة والتدليل عليها. فالشعر يخدم اللغة، أما النثر فإن اللغة هي التي تخدمه، كذلك، فإن الكاتب متى باشر بكتابة النص النثري فإنه لا محالة ملتزم بقضية ما.

شخصيا أعتقد أن الأدب النثري، خاصة الرواية، قد شكلت ومازالت تشكل أحد الوسائل المهمة التي أزاحت الستار عن قضايا ومواضيع حيوية ربما أغفلها التاريخ أو تغافل عنها لأنه يركز على الأسباب والنتائج وعلى صناع القرار والشخصيات المؤثرة في الأحداث وليس على الطبقة المهمشة من المجتمع. لذلك كانت الرواية على مدى العقود الماضية هي الواجهة الأمامية التي تصدت وتطرقت لمواضيع وأزمات نفسية ومجتمعية متنوعة مثل الحروب والكوارث والقهر الإنساني والمجاعة والأمراض والهجرة والاغتراب والتمييز إضافة إلى المواضيع المستجدة مثل البطالة والتسلط السياسي والبون الشاسع بين طبقات المجتمع.

وفي هذا المقال، سأتطرق بشكل أكبر إلى أدب ما بعد الكولونيالية في الرواية العربية لنرى إن كنا نملك حقا أدبا يغطي هذه المرحلة ويلقي الضوء على تفاصيل ما حصل. وفي هذا الجانب فإنه من المهم إسقاط إضاءة تاريخية لما حدث في وطننا العربي من المنظور الاستعماري. فأولا إن الكولونيالية كمفهوم يتعلق بالاستعمار الغربي تحديدا، ما يعني أن هذا الأمر لا يتعلق مثلا بقرون من الاحتلال العثماني لدول عربية والتي مازلنا منقسمين حتى في تصنيفها كاستعمار أو حكم خلافة إسلامية.

والكثير من الدول العربية مثل الخليج العربي وبعض دول المغرب العربي لم تخضع لهذا الاستعمار والبعض الآخر خضع لفترة قصيرة كما حصل في العراق عام 1917 بدخول القوات البريطانية وهزيمة العثمانيين، ثم عام 2003 بدخول القوات الأميركية وإسقاط نظام صدام حسين. لكن في كلتا الحالتين، كان الاحتلال، رغم المآرب الخفية لأصحابه، أشبه بالانتداب وعمل على إدارة البلاد مؤقتا ولم تعلن هذه السلطات عن نيتها البقاء في البلاد.

أما الأمر الثاني المهم فهو الاختلاف بين عقلية المستعمر نفسه. فبعد أن خضع العالم العربي لاحتلالين هما الفرنسي والإنجليزي (إضافة إلى الاحتلال الإيطالي لليبيا)، اختلفت المقاربة الاستعمارية في التعامل مع الدول الخاضعة لها مع أنهما يعودان إلى عقلية أوروبية تقوم على الاستعلاء ونهب الخيرات واستعباد الشعوب. تميزت فرنسا بأنها سعت بكل ما أوتيت من قوة إلى فرنسة الشعوب بفرض لغتها وثقافتها ومعتقداتها كما هو معلوم لدى الجميع لإلغاء الآخر تماما. لذلك، نجد بعضا من الدول العربية قد تأثرت بالفرنسة وأولى سمات هذا التأثر استخدام اللغة على نطاق واسع في دول المغرب العربي كالجزائر وتونس والمغرب وفي لبنان حيث باتت اللغة الفرنسية لغة تداول رسمية أو شبه رسمية حتى الآن. وفي المقابل، فإننا لا نجد دولة عربية خضعت للاحتلال أو الانتداب البريطاني تتحدث باللغة الإنجليزية أو الإيطالية.

خخ

هل لدينا رواية ما بعد كولونيالية تمثل اتجاها واسعا أو واضحا في السرد العربي؟

تحتاج الإجابة عن هذا السؤال أوجها متعددة أبرزها:

  • أولا: كما أوضحت أعلاه، اتخذ الاستعمار، مثل البريطاني، طابع الانتداب بفرض إرادته بطريقة غير مباشرة من خلال أدواته، أو كان قصيرا كما حصل في حملة نابليون على مصر. ومع ذلك، خرجت بعض الأعمال التي تناولت تلك الفترة، مثل رواية “الأزبكية” لناصر عراق التي تناول فيها الحملة الفرنسية على مصر من عام 1798 وحتى 1805، حيث عالج الواقع المصري في الوقت الحاضر، بمزج التاريخ بالخيال، ورواية “مقامات إسماعيل الذبيح” للروائي عبدالخالق الركابي التي تناولت التاريخ العراقي والعربي وتطرقت للاحتلال البريطاني، وكذلك رواية “الوليمة العارية” للروائي علي بدر التي تطرقت بالتفصيل إلى إرهاصات لحظة فاصلة في التاريخ العربي، عندما انهارت الدولة العثمانية وسيطر الاحتلال الإنجليزي على الدول التي كانت تحكمها. وتستهل الرواية بالأحداث التي استبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث يرصد بدر على بطله منيب أفندي الذي يعشق كل ما هو أوروبي تحولات المجتمع العراقي والعربي خاصة بعدما بدأ الأتراك يغادرون بغداد، ليحل محلهم الإنجليز.
  • ثانيا: ولادة الرواية العربية حصلت بعد عقود طويلة من زوال الاحتلال ونيل الدول لاستقلالها التام مع استثناء الحالات القليلة كما حصل في عام 2003 بدخول قوات الاحتلال الأميركي إلى العراق وإسقاط النظام القائم وقتها. ومع ذلك، أنجب هذا الاحتلال مادة خصبة للكثير من الروايات التي تناولت ذلك الحدث عربيا وعراقيا من بينها أعمال الروائية إنعام كجة جي  ومن بينها “طشاري”، “الحفيدة الأميركية”، “سواقي القلوب” وأعمال سنان أنطون “يا مريم” و”فهرس” ونزار عبدالستار “الأمريكان في بيتي”، وكذلك الأعمال العديدة التي تناولت ما حصل في العراق بعد عام 2003 وإرهاصات الاحتلال الأميركي.
  • ثالثا: انشغلت الرواية العربية خلال العقود الماضية بالكثير من القضايا التي أثرت في واقع الفرد العربي بشكل كبير وكانت ثيمة سردية دسمة طغت على قضية الكولونيالية التي لم يعش هذا الجيل وربما الجيل السابق أيا من تفاصيلها. فمثلا، كانت الحرب الأهلية اللبنانية محورا لكثير جدا من الأعمال الروائية اللبنانية، وعشرية الإرهاب للرواية الجزائرية، والحالة الاجتماعية والبون الشاسع ما بين الفقراء والأغنياء في الكثير من الروايات المصرية.

ومؤخرا، كان الربيع العربي وتأثيره السياسي ثيمة روائية مهمة وواسعة النطاق فاتجهت مثلا الرواية السورية لتركز بشكل كبير على ما حل بسوريا بعد عام 2011 من حرب بين النظام والجبهات المتعددة المنادية بالتحرر، وتطرقت أعمال تونسية للثورة التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي. أما الرواية العراقية التي انعتقت من تسلط النظام السابق الذي كان يفرض قيودا مشددة ويريد من الرواية والأدب بصورة عامة أن تكون تعبوية لحروبه ومغامراته، فقد تناولت الأحداث العاصفة العديدة التي حلت بالبلاد بعد التغيير مثل الحرب الأهلية والإرهاب والهجرة وسقوط الموصل وكارثة سنجار وغيرها من الأحداث التي تتيح مادة خصبة للسرد.

  • رابعا: الرواية العربية التي تعيش حاليا ازدهارها وتركز بشكل كبير على مواضيع مثل السيرة الذاتية والحب والتحولات السياسية والواقع الاجتماعي. وحتى الرواية التاريخية أصابها التسرع في الكتابة أو هي مؤدلجة تفتقر إلى التخييل الروائي الذي يشكل الفارق ما بين السرد والتقرير.

من هنا، صدرت أعمال روائية عربية ليست بالقليلة تناولت حقبا تاريخيا في أزمان بعيدة مثل الدولتين الأموية والعباسية ومعارك العرب في تلك الفترات أو تطرقت لشخصيات تاريخية معروفة بعضها مثيرة للجدل مثل “موت صغير” لمحمد حسن علوان، التي تناولت حياة المتصوف ابن عربي ورواية “فردقان” ليوسف زيدان، التي تناولت فترة اعتقال الشيخ ابن سينا في قلعة فردقان، ورواية “دمه” لمحمد الأحمد التي تناولت حادثة ذبح الجعد بن درهم في ليلة عيد الأضحى على يد والي العراق خالد القسري كقربان تعبدي للسلطة التي تخاف من العقل الحر والمثقف المجاهر برأيه خلال الفترة الأموية وخلافة هشام بن عبدالملك. وفي المقابل، تناولت أعمال عراقية بعد 2003 ما تعرضت له الأقليات والهويات من اضطهاد خاصة اليهودية مثل “أسد البصرة” لضياء جبيلي و”حمام اليهودي” للراحل علاء مشذوب و”حارس التبغ” لعلي بدر.

هه

أعتقد شخصيا أن الرواية الجزائرية خير سفير للرواية العربية ما بعد الكولونيالية، فهذا الاحتلال الذي استمر لـ132 سنة (منذ عام 1830 وحتى 1962) كان الأكثر بشاعة ودموية الذي تعرضت له دولة عربية (بالإضافة طبعا إلى الاحتلال الصهيوني لفلسطين منذ 1948 وحتى الآن) وخلّف وراءه أكثر من مليون شهيد وذاكرة حبلى بالكثير من المآسي والأحداث المفجعة والكوارث الإنسانية التي مازالت الذاكرة الجزائرية طرية بفواجعها حتى ألّف الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر كتابا بعنوان “عارنا في الجزائر”.

كان الاحتلال الفرنسي وآثاره محورا لثيمات العديد من الأعمال الروائية الجزائرية من بينها على سبيل المثال لا الحصر رواية “الأمير” لواسيني الأعرج (جزءان) تناول فيها بطريقة مخيالية سيرة الأمير عبدالقادر الجزائري (1808 ــ 1883) الذي قارع أولى موجات الاستعمار الفرنسي ونفي لفترة طويلة في فرنسا، وكذلك ثلاثية أحلام مستغانمي “ذاكرة الجسد” (1993) و”فوضى الحواس” (1997) و”عابر سبيل” (2003) التي تناولت في معظم أجزائها النضال للتخلص من الاستعمار الفرنسي وآثار تلك التجربة في الواقع الحاضر.

ومن الأعمال الروائية التي صدرت مؤخرا لكتاب شباب وتناولت الفترة الكولونيالية الجزائرية رواية “الديوان الإسبرطي” لعبدالوهاب عسيري (التي نالت البوكر العربية 2020). ومع أنها لم تغط الفترة التي تلت تحرر الجزائر، فقد ألقت الضوء على أحداث تاريخية مهمة جدا في زمن قصير (1815 – 1833) وذلك بعد هزيمة الفرنسيين التاريخية في معركة واترلو. إنّ التشكيل البوليفوني الذي اعتمده الروائي عامل مهم لإلقاء الضوء على الإرهاصات التي ماجت في تلك الفترة حيث انتدب الكاتب خمس شخصيات ممثلة في ديبون الصحافي الفرنسي، وكافيار الجندي من جهة الحملة الفرنسية، ثمّ حمة السلاوي ودوجة وابن ميار من الجهة الجزائرية.

أما الروائي الآخر، محمد فتيلينه، فهو صاحب مشروع مهم يتطرق فيه لما حصل في الجزائر بعد التحرير وتأثير الكولونيالية في هذا البلد من مختلف الأبعاد. وفي روايتيه على سبيل المثال “كافي ريش” و”رعاة أركاديا” الصادرتين عن دار ضمة في الجزائر يواصل فتيلينه طرق هذا الموضوع الشائك والمُعقّد، في محاولة لمساءلة التاريخ وإنصاف بعض الأقدام السوداء (المستوطنين الأوروبيين الذين سكنوا أو ولدوا في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي). من خلال رعاة أركاديا، أراد فتيلينه أن ينصفهم ويسائل التاريخ عن إمكانية حصول الأقدام السوداء على حقوقهم كجزائريين. علماً أن بعضهم قدم روحه فداءً للجزائر أمثال المناضل الشيوعي موريس أودان الذي اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتله، والطبيب النفساني والفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون، وصولاً إلى إحدى بطلات الرواية ريموند بيشار، أخت أركاديا بيشار التي تُعتبر الشهيدة الجزائرية الأوروبية الوحيدة التي سقطت في ميدان الشرف وكان رفاق النضال يسمّونها بالطاووس.

ومع النبش التاريخي الذي يقوم به عدد ليس بالقليل من الروائيين العرب في وقت تشهد فيه الرواية أوج ازدهارها، نأمل أن يكون القادم مزيدا من النتاجات التي تسلط الضوء على تلك الحقبة المهمة من التاريخ العربي والتغلغل في الآثار الذي خلفتها الفترة الكولونيالية سواء القصيرة منها والطويلة في المجتمعات العربية.

وقد تطرقت للروايات التي أسعفتني بها الذاكرة ومن المؤكد وجود أعمال أخرى لكن المقال لا يسمح بإلقاء الضوء عليها جميعها.

  • ينشر بالاتفاق مع مجلة الجديد
9