الروائي المصري مصطفي البلكي: أنا صنيعة النساء

تطرح كتابة الروايات التاريخية مأزقا أمام من اختار هذا التوجه، إذ يجد نفسه بين سطوة الواقع والماضي والشخوص والأحداث المؤرخَة من جهة، ومن جهة أخرى يجد نفسه أمام حيز ضيق لإطلاق العنان لخياله، فالرواية التاريخية أشبه بخيط رفيع يمشي فوقه الكاتب وطرفاه الخيال والواقع. “العرب” التقت الروائي المصري مصطفى البلكي في حديث حول الرواية التاريخية وعوالمه الأدبية.
الجمعة 2016/07/22
نولد لنبحث عن صلة تجعلنا نتعلق بالحياة

القاهرة - للكاتب المصري مصطفى البلكي عالمه الخاص، عالم القرية، إذ يعي تماما معنى الموروث في منطقته في صعيد مصر، ومنها شكل أغلب أعماله: “تل الفواخير”، و”بياع الملاح”، و”سيرة الناطوري”، و”الجمل هام للنبي”، وغيرها. كما جرب الكاتب أعمالا أخرى خارج عوالم القرية تتناول التاريخ، مثل “طوق من مسد”، و”نفيسة البيضا” آخر أعماله المنشورة، التي تناول فيها حياة امرأة كانت شاهدة على أحداث تاريخية هامة جرت في مصر.

العالم الثالث

هناك صعوبات واجهت مصطفى البلكي في كتابة روايته “نفيسة البيضا” والتغريد بعيدا عن أرض القرية التي نسجت كل أعماله الروائية والقصصية، يقول البلكي”حينما أدخل منطقة لا أنتمي إليها، أدخلها وأنا أحمل كل الثقافة المرتبطة بالبيئة التي خرجت ومازلت أعيش بين جنباتها، أتحرك بنفس الموروث، وأعمل على تضفيره داخل العمل، وهذا تم في روايتي ‘طوق من مسد‘، و‘نفيسة البيضا‘.

وحتى يستقيم الأمر أقول دائما إن الكتابة هي عملية خروج كل ما يدور في العتمة إلى براح يسكنه النور، وحتى لا نتجمد في مطارحنا نسمح لكل الساكن بداخلنا أن يتماس مع واقع هو حاضر معيش، فيتكون العالم الثالث لحظة كسر الحاجز بين العالمين، فيولد ليحمل بعض صفاتنا”.

اختيار الكاتب لشخصية تاريخية هي نفيسة البيضا لتكون بطلة روايته، لم يكن أمرا سهلا، إذ يؤكد البلكي أن كل عمل هو بمثابة بحث، لكن غياب المصادر أحيانا يمثل عقبة، ويبقى كسر هذا الحاجز رهين الإصرار والبحث الدائمين، والاعتماد على التخييل، كما يقول؛ إذ يرى أنهما سلاح في يد الكاتب لسد الفجوات، وهذا ما فعله هو في روايته الأخيرة، فندرة المراجع أوجدت مساحات شاسعة للتخييل، إذ يرى أن الحياة التي لا تعلي من قيمة الخيال هي بمثابة أرض بور، لا ينبت فيها إلا الشوك، لكن هذا الفعل يجب أن يحفظ للتاريخ وجوده وألا يجور عليه، حسب رأي ضيفنا.

يضيف البلكي متحدثا عن ندرة المصادر “حينما كتبت رواية ‘طوق من مسد‘ كانت مصادري متعددة، لأنني كنت أحلق في فضاء واسع، باستحضار روح العصر المملوكي، فلم أكن مقيدا، كنت حرا طليقا، لذلك تنوعت مصادري، ولا أنكر أن تلك التجربة جعلتني قريبا جدا من طبيعة الحياة في ذلك العصر”. وهنا نكتشف أهمية المصادر في كتابة أي عمل روائي تاريخي.

الكتابة لا تختلف سواء أكانت عن الواقع المعاش أم عن الماضي الذي كان، فكل حاضر به قبس من الماضي

أما بخصوص رحلة مصطفى البلكي مع شخصيته نفيسة، فيرى ضيفنا أن بداية رحلته مع هذه الشخصية كانت صدفة، أثناء قراءة عجائب الآثار في التراجم والأخبار لشيخ المؤرخين عبدالرحمن الجبرتي، فوقف عند ترجمته لنفيسة المرادية، وهي إحدى النساء القلائل اللاتي ذكرهن، وبعد فترة عاد للترجمة، فتحررت الكلمات من تحت الخطوط الحمراء، كانت حقيقة، كما يقول، فأمسك بها، وراح الوجود كله يتحرر، لا على مستوى الشكل فقط بل على مستوى الشكل وقد أُضيف إليه مستوى الفكر.

رواية “نفيسة البيضا” كما يقول كاتبها حلم، والحلم عالم لا قيد فيه، كل شيء مباح، وبما أنه لا قيد أيضا على الخيال كان الحلم المتنفس للأرواح التي ترزح تحت سياط العبودية والحب المحكوم بالموت منذ ولد كما في حالة شخصية مهرة التي نجحت في حجب دور نفيسة في العديد من مناطق الرواية. فمهرة هي امرأة الحلم، كما يقول البلكي.

يشغل التخييل الجزء الأكبر من عالم رواية “نفيسة البيضا”، فالبلكي يرى أن “الكتابة هي الكتابة، لا تختلف سواء أكنت أكتب عن الواقع المعيش أم عن الماضي الذي كان، وبداية لا بد من معرفة أن كل حاضر به قبس من الماضي، فلولا هذا الماضي ما وجد الحاضر، وفي كلتا الحالتين يوجد الإنسان، والإنسان لديه ما هو ثابت، كمنظومة الأخلاقيات، وما هو متغير مرتبط بالمزاج”.

صلة بالحياة

يحرص مصطفى البلكي دوما على أن تكون أيقوناته التي تشغل جل أعماله: الأم والجدة، عن حرصه هذا يقول ضيفنا “دائما أقول حينما تأخذ الصحراء أحدنا، لا نلوم الماء لأنه هو الذي سحبه بحبل السراب، بل نلوم الماء الذي فضل عدم الحضور، وأنا صنيعة النساء (الجدة والأم) وحضورهما هو بمثابة رحيل إلى عالم النور، عالم متقن، وكل شيء فيه واضح، تماما كأنك في قاع البحر، هناك في الأعماق كل شيء واضح، حيث تبرأ نفسي وأصبح جزءا من عالم يضخ بكافة الألوان، والألوان دائما لا تكذب.

الرواية عالم ثالث يحدث لحظة كسر الحاجز بين عالمي الواقع والخيال

وعن طقوس الكتابة عند البلكي يصرح “حينما نكتب نوجد حياة كاملة، نريدها، وليست حياة تفرض علينا، يريدها لنا الغير، حياة فيها الكثير منا، لذلك فنحن نصنع السعادة، سعادة نتمنى أن نكون تحت جناحها طوال الوقت، لنعيش ونتنفس بعمق. وتلك السعادة المقرونة بالكتابة تحتاج إلى موهبة الصبر، والتحمل والوجود معها في كل الظروف وتحت سياط أي واقع، ودائما تكون الحاجة إلى الخلاص حاضرة، فنكون معها في أي مكان، عندئذ يستجيب الداخل لها، ونكون حيث تريد، فهي وحدها التي تختار، وما علينا إلا أن نخضع، ونذوب بروح طفل يهوى اللعب، وصناعة التسلية لنفسه، وأنا أتمنى دائما أن أوجد في مكتبتي وبين كتبي وجهازي ووجوه كثيرة تتراءى لي”.

معروف عن مصطفى البلكي تعلقه الوثيق بالقرية والصعيد، لكن في عمليه الأخيرين تتخطى عوالم كتاباته القرية لتغزو المدينة ويظل هو ابن القرية الذي لا تشغله أضواء المدينة قدر انشغاله بالكتابة، يعلق الكاتب قائلا “نحن نولد لنبحث عن صلة تجعلنا نتعلق بالحياة، وتلك الصلة هي الحب، والحب حبل سري نعيش بواسطته، هو من يتحكم فينا، ولا نملك سلطة عليه، وبما أنه لا سلطة على الحب، فأنا عاشق لموطني، لقريتي، ودروبها، وناسها وحجرها، وزرعها، وكل طير يحط على شجرة عجوز تسمق على رأس حقل، كثيرا ما جلست تحتها، ولذلك أنا أصبحت مثل السمك لو فارق المياه لمات، وهنا يكون السؤال المنطقي: ماذا أريد؟ وأنا سأجيب، كل ما أريده هو أن يمضي يومي وأنا أقبض على السعادة، وأفعل ما أريده بروح طفل، الهدوء هنا يوفر لي فرصة ممارسة هذا الفعل، وفوق هذا يجعلني رفيقا للحلم، القادر على وضعي على سطر سأكتب عليه كلمة في الغد، فلا غد من دون أمل، ولا أمل دون حب”.

بمناسبة الحلم، نسأل ضيفنا إن كان يحلم بترجمة أعماله؟ فيجيبنا “هناك حياة وهناك شيء يسمى فوق الحياة، الحياة نملك مهرها، الوقت والصبر والكتابة، أما الترجمة فهي ترف لا أملك كلفته، وتلك الكلفة تحتاج إلى شخص يحمل عملك إلى دار نشر، وأحيانا يكون هذا الشخص متطوعا نظير مال، وتلك هي الحالة العامة، لذلك لم أفكر في الأمر ولم أتعلق في حبائله، لكن لو جاء بسبب ما أكتب، وباقتناع ممن سيقوم بالمهمة فلا ضير في ذلك، وستكون نافذة أخرى فتحت لي، أطل منها على شعوب أخرى”.

15