الروائية الأميركية جومبا لاهيري تكتب "بعبارة أخرى"

ما الذي يدفع الكاتب إلى مجازفة الكتابة بلغة أخرى جديدة غير تلك التي صنعت مجده الأدبيّ؟ وكيف يقرر، في حينٍ من الدهر، أن يذهب إلى نقطة الصفر، فيخلع عنه أردية حياة حاضرة، ويدخل بشغف المريد وصفاء ذهنه وانضباط جوارحه في حياة لسان آخر؟ وهل صحيح أنّ الإنسان يظل منفيًّا في اللغة؛ أيّ لغة، حتى في داخل لغته هو؟
وكانت لاهيري، وبعد الانتهاء في العام 2012 من روايتها الثانية “الأرض الواطئة“، (والتي ترشحت لجائزة المان بوكر وجائزة الكتاب القومي الأميركية في العام 2013 على حد سواء، ونالت جائزة الأدب الجنوب آسيوي في العام 2014)، قد سافرت مع عائلتها للعيش في روما، وطيلة أكثر من سنتين لم تتكلّم سوى الإيطالية التي فتنتها منذ الزيارة الأولى التي قامت بها إلى أرض “الثور الذي ينطح الذئب” في العام 1994. مذّاك، وعلى امتداد نحو عشرين سنة، راحت تدرس الإيطالية، وتقرأ أدبها بشغف لا ينقطع.
وفي محاولة منها للإجابة على ما قد يدور في خلد القارئ وهو يطالع ما أسفرت عنه مغامرتها الجديدة، تختار لاهيري مقولة للروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي (1943 - 2012) عتبةً في مفتتح الكتاب، تختصر عليها مشقة بوح قد يطول أو يقصر “أحتاج إلى لغة مختلفة: لغة كانت مطرحًا للوجدان والتأمل”.
ولعلّ هذا الاستشهاد بتابوكي فيه قدر من المماثلة والتشابه بين التجربتين: فهو كان قد انكّب على تعلم البرتغالية مذ أن فتنته لغة فيرناندو بيسوا حين قرأه لأول مرة في أثناء تواجده في السوربون إبان ستينات القرن العشرين، فتعلّمها حتى برع فيها وأصبح أستاذًا لها في جامعة سيينا الإيطالية. وليس هذا فحسب، فمن شدّة عشقه لهذه “اللغة المختلفة” وهيامه بها، أقدم تابوكي في العام 1991 -وبعد أن كان قد ترجم معظم أعمال بيسوا- على نشر رواية “قُدّاس: هذيان“، والتي كان قد كتبها باللسان البرتغاليّ مباشرة ودون تكلّف أو عناء.
|
لغتي الأقوى
وفي “ملحوظة المؤلف”، وهي القطعة النثرية الوحيدة التي كتبتها بالإنكليزية منذ رحيلها إلى روما، رفقة بعض المراسلات الضرورية الأخرى، تشرح لاهيري أنّ سبب عزوفها عن ترجمة الكتاب بنفسها كان محاولة منها “حماية لغتها الإيطالية” وأنّ “العودة إلى الإنكليزية كانت محيّرة ومحبطة وغير مشجعة”.
جومبا لاهيري صوت روائي متحقق بقوّة في مدونة الأدب المكتوب بالإنكليزية. فمجموعتها القصصية الأولى “ترجمان الأوجاع″ (1999)، باعت أكثر من 600 ألف نسخة، وفازت بجائزة هيمنغواي لأفضل عمل قصصي أوّل في ذات العام، وبجائزة البوليتسر المرموقة في القَص للعام 2000.
وتاليًا ترجمة لمقاطع منتخبة من الكتاب:
أريد أن أعبر بحيرة صغيرة. إنها صغيرة حقًّا، ولكنّ الضفة الأخرى تبدو بعيدة جدًا، أبعد من طاقتي. أدرك بأنّ البحيرة عميقة في المنتصف، وعلى الرغم من أنني أعرف السباحة، إلّا أنني خائفة من أكون وحيدة في الماء دون أيّ عون.
|
رفيقي القاموس
أوّل معجم إيطالي اشتريه قاموس جيب، يحتوي على التعاريف بالإنكليزية. إنه العام 1994، وإننى على وشك الذهاب إلى فلورنسة لأول مرّة، رفقة أختى. أذهبُ إلى مكتبة في بوسطن تحمل اسمًا إيطاليا: ريزولي. مكتبة عصرية وراقية، والتي لم تعد موجودة هناك.. للقاموس الذي أختاره غلاف بلاستيكيّ أخضر، غير قابل للتلف، وكتيم. إنه خفيف، وأصغر من يدي. له أبعاد قد تزيد عن فلقة صابون أو تنقص قليلًا.. أمّا اليوم فإنني أمتلك معاجم أخرى كبيرة، قواميس أكثر أهميّة على مكتبي.
أسمع حماسة الأطفال وهم يتمنّون لبعضهم البعض “عيد ميلاد سعيدًا” في الشوارع. أسمع الرقّة التي تسألني بها ذات صباح المرأة التي تنظف الفندق: هل نمت جيدًا؟ وحين يرغب رجل يمشي خلفي على الرصيف أن يعبر، فإنني أسمع التّأفف الطفيف الذي يسأل به: هل تسمحين؟ لا أستطيع الإجابة. فلست قادرة على المحاورة. أُنصت. إنّ الذي أسمعه، في الحوانيت وفي المطاعم، يستدعي استجابة فوريّة، منفعلة ومتناقضة.
أفكر في دانتي
حدثت علاقتي مع الإيطالية في المنفى، في مقامٍ من المباعدة والافتراق. تنتمي كل لغة إلى مكان محدّد. تستطيع الهجرة، تستطيع أن تنتشر. ولكنها مرتبطة في العادة بمنطقة جغرافية، ببلد. تنتمي الإيطالية بالدرجة الأولى إلى الإيطاليين، وإنني أعيش في قارة مختلفة، حيث لا يصادفها المرء بسهولة. أفكّر في دانتي الذي أنتظر تسع سنين قبل أن يكلّم بياتريس. أفكر في أوفيد منفيًّا من روما إلى مكان قصيّ. إلى نقطة لغويّة محاطة بأصوات غريبة. أفكر في أمّي التي تكتب قصائد بالبنغالية، في أميركا. وبعد أكثر من نحو خمسين سنة على الانتقال للعيش هناك، فإنها لا تستطيع العثور على كتاب مكتوب بلغتها هي.
كاتب من الأردن