الرسم بعين مفتوحة

كانت نصيحتي له أن يفتح عينيه ويرى، وهي نصيحة لا يجرؤ المرء على تقديمها لرسام، ذلك لأن الرسم في أساسه فعل يقوم على النظر.
ولكنني اكتشفت أن صاحبي حين يجتاز المسافة بين بيته ومرسمه الذي يقع في الضواحي لا ينظر إلى ما يحيط به، لذلك فإنه حين يصل إلى مرسمه لا يجد ما يرسمه، كل ما كان يفعله هناك أنه كان يعيد رسم ما كان قد رسمه قبل سنوات في بلده الأصلي.
لم يكن يشعر بالملل، وهو ما أحرجني.. لم أجرؤ على أن أخبره أن ما يقوم به لا قيمة له، فالرجل يبدو مستمتعا بما يقوم به على الرغم من عبثيته، غير أنني لاحظت أنه صار يخبئ رسومه تلك عني.
سألته عن رسومه الجديدة، فقال “بعد نصيحتك اكتشفت أنني لم أكن أرسم، هناك شخص يمسك بأصابعي هو الذي كان يرسم”، لم أطلب منه أن يطرد ذلك الشخص.
أخبرني أن الحنين يكاد يقتله، “لقد اكتشفت أنني كائن أعمى لا يمارس فعل النظر إلاّ في ظلمات نفسه”، كنا في برلين وكان قطار الأنفاق مزدحما بالناس من حولنا، أخبرته أنني لا أفهم الألمانية لكنني استلهم ممّا يقولون الكثير من الكلام الذي يمكن أن أحوله إلى موضوع للكتابة.
“لكنني لا أزال سجين الماضي”، قال.. في تلك اللحظة أدركت أن صاحبي صار قريبا من فكرة الحرية، الخطوة المقبلة التي سيلقيها لا بد أن تحرّره من الكائن الذي يرسم له لوحاته، بعدها سيكون عليه أن يرى العالم الذي يحيط به بطريقة مختلفة.
تركت صاحبي في برلين وصرت أشعر بالإحباط كلما رأيت لوحة جديدة من لوحاته، ذلك لأن تلك الخطوة المرتجاة ظلت عالقة في الهواء بما يعني أن صاحبي لا يزال أعمى.
كانت الحياة من حوله زاخرة بالمشاهد التي يمكن أن تنفذه من حنينه، مشاهد، لو أنه تأملها جيدا لاهتدى إلى الطريق التي تقود إلى حياته الحقيقية.