"الرجل المئوي".. صراع سلمي بين الخطاب العلمي والخطاب الأسطوري

يعتبر الزمن من أهم عناصر الكتابة السردية، يؤطر مسارات الحكاية والشخصيات والأمكنة والأفكار والتصورات، ولذا كان الزمن محل الاهتمام الأول للروائيين، فكان منطلق التجديد البنائي عندهم كما كان منبت التجريب والتجديد، خاصة وأن الزمن ليس واحدا أبدا. وهذا ما يعيه جيدا الروائي وارد بدر السالم ويتقن التحكم به في روايته “الرجل المئوي”.
محمد يونس محمد
عنصر الزمن من أهم الوحدات التي لا ندركها بشكل مباشر. فهناك أكثر من وحدة زمن ولكل منها نظامها، وكل منها ذات طبع ولها هويتها، وتندمج كل تلك الذوات في اللحظة الواقعية للكاتب، فتوظيف أيّ ذات قد يمر بقناة الأزمنة بمجملها، أو قد يمر بزمن محدد، وهناك زمن مقابل هو زمن النص الروائي، وأعتقد بأن أعْقد الأزمنة هو الزمن النفسي، إذ يرتبط بالذات الوجدانية، وهو زمن افتراضي وليس حقيقيا كباقي الأزمنة، لكن له عمق خاص في التأثير. هو عادة مكرس في الرواية الرمزية، كون الرمز حسب يونغ مدعاة للتأويل أو يثير الكوامن، وهو أخطر الأزمنة تقنيا.
يحتاج الزمن النفسي إلى دراية ودقة ودربة في التوظيف، ويرتبط بهذا الزمن منطقة الطفولة، والتي دائما تجدها مهملة رغم أهميتها، لذا فيما بعد لا يجد الكاتب بدا لاستعادتها والتعويل عليها وعلى الزمن الافتراضي، لكن من الممكن أن يقوم البناء في الرواية إلى تنبيهنا بوحدة الزمن، ففي رواية فوكنر “الصخب والعنف” كسر الروائي إطار وحدة الزمن التسلسلي في الواقع والوجود الذي تعتمد عليه الرواية في تاريخها، وقلب وحدة الزمن الروائي، ففي الرواية كان بنجي الصغير هو محور الرواية والأحداث.
جدل الحوارات
من المهم جدا الكشف عن وحدات الزمن بالرواية، وهذا ما اشتغلت عليه رواية “الرجل المئوي” للكاتب العراقي وارد بدر السالم، حيث مسألة الزمن والتاريخ هي المحور الأساس في بنية الرواية .
تشكل بنية الجدل أحد البنى أو الوحدات في الرواية، حيث هناك معنى علمي يقابله معنى تاريخي، وقد تجاوز وارد بدر السالم الترسيمات الأساس في كون الزوج هو مثال العلم والحقيقة والزوجة مثال الأساطير، لكن قلْب تلك الميزة جاء لصالح الرواية، وهذا هو المعنى الأدبي الذي تتطلب المضامين إثارته، وفي التفسير العضوي للرواية أنها كانت ترتكز على الحوار ما بين الزوج، الذي يؤمن بوجود أسطورة حقيقية، والزوجة التي تقف على ناصية المنهج العلمي ولا تتخلى عنه.
وفي المعرفة اللسانية لغة الحوار لا تصنف على أنها لغة اجتماعية، بل انفتحت اللغة على جوانب أخرى، ولم تكن مرتبطة بجانب أحادي يجعل أفق الرواية ضيقا، ووحدة الزمن متسلسلة في مسارها، وقد تنوعت إيقاعات الحوار في عدة أبعاد، وذلك له أثر في رفع مستوى الاستدلال، ففي البعد الواحد نمط الدلالة يعاد بعدة وجوه، وفي الأبعاد المتعددة تكون الدلالات هي المتعددة وتخرج من النمط الواحد، وهنا تتسع نسب الاستدلال وتتنوع، ويكون لكل مستوى دلالي مسار يتجه فيه، وعلى مستوى الكتابة نلمس التعدد والتنوع للمستوى الدلالي، والرواية منذ المستهل قدمت لنا الفكرة التي كتبت على عنونة الغلاف، لكن من دون صيغة مباشرة، بل عبر إشارة مختصرة وليست مسهبة.
في تفسير المواقف المتعارضة ما بين الزوج والزوجة نلمس لسانيات اللغة في الرواية تمر بمتعرجات مهمة، فنشاط اللغة الروائية في الرواية له الأثر الواضح في رفع مستوى متعة القراءة، فعلى مستوى التحليل المعرفي للسانيات للغة، هي تكاد تكون بوحدة زمن دائرية، كلما استنفدت طاقاته تجددت من جديد، ففي الصفحة الخامسة نلمس في خطاب الزوجة العلمي “تسيّرون الزمن حسب أهوائكم..” نصل إلى التفسير اللساني المقصود في رد الزوج “إنه زمن مفتوح على كل شيء.”
وما بين لغة ولغة أخرى لا بد من وضع أسس لسانية لكل خطاب، فالزوجة هي الوجه الذي يمثل نشاط خطاب المنهج العلمي بتمامه المضمون والمعنى ووحدة الزمن العضوي، فيما الزوج يمثل التاريخ والأسطورة والزمن المفتوح، وهنا لسنا إزاء الاختلاف والخلاف الواضح، بل نتجه نحو المعنى الروائي الذي يتكشف أكثر عبر ذلك الصراع ما بين خطاب الزوجة العلمي وخطاب الزوج المبتعد نحو أفق حر غير محدد.
ونلمس كذلك بين إصرار الزوج على الذهاب إلى المسرح وتردد الزوجة في ذلك، وهنا المعرفة اللسانية تكون مرتبطة مباشرة بالحس والمشاعر بوصفها لغة صامتة، ونهدف هنا في التوغل نحو النفس البشرية لشخصية الزوجة والزوج، فهناك اتفاق أسَري، لكنْ هناك اختلاف على فكرة الزمن والزمان، عند الرجل المئوي الذي هو آصرة الجدل الأساس، والتي ينبثق من خلالها الجدل متعدد الوجوه.
رواية الزمن
عنصر الزمن في بنية الرواية في جريانه من فصل إلى آخر يحيلنا نحو ذلك التتابع الزمني الذي ينقطع ويعود
في جميع الصفحات تقدم لنا رواية “الرجل المئوي”، الصادرة عن دار الدراويش للنشر والترجمة، ذلك الصراع السلمي ما بين خطاب المنهج العلمي الثابت وخطاب التصورات التاريخية المفتوحة، ونلمس تشعب ذلك الصراع وعدم البقاء في أفق الفكرة العامة، والفصول التي تمثل المسار الزمني لرواية ما بعد الحداثة جميعا قد ارتبطت بفكرة الزمن والزمان بشكل مباشر.
ونشير هنا إلى أن الزمان هو التوقيت، ووحدة الزمن هي قرين ذلك التوقيت، وكل توقيت يشتمل على وحدة زمنية أو أكثر، ولكل من شخصية الزوجة والزوج هناك توقيتات وهناك وحدات زمنية لهما، ففي الحضور للمسرح توقيت والحضور العضوي له زمن، وفضاء المسرح له زمن أيضا، لذا يكون التوقيت كرياضيات لا لبس فيها، ويكون لوحدات الزمن ذلك التعقيد الذي من الصعوبة حتى دراسته.
ونجد النسب العالية من الدراسات النقدية للرواية تهمل تحليل وتفسير وحدة الزمن بشكل مباشر، ونحن هنا نفصل وحدة زمن عن أخرى، فالزوجة هي وجود عضوي، هناك زمن عضوي لها، وهناك زمن حسي يقابل الزمن العضوي، وكذا الأمر ذاته ينطبق على الزوج، والزمان الروائي في الرواية هو ذلك التعاقب الزمني الذي ينتقل من فصل نحو آخر، ومن الطبيعي هناك وحدة زمن تخص الإشارات التي ذكرت فيها البلدة الصغيرة التي يعيش فيها الزوجان، ووحدة الزمن تلك تختلف عن وحدة الزمن التي أشير إليها في حضور حشود بشرية لمشاهدة الرجل المئوي.
قدم لنا أرسطو مبكرا تعريفه للزمن على أنه عدد من التغيرات، والتي تستوجب الأخذ بالاعتبار حالة الزمن قبل تلك التغيرات وبعدها، وبعد التطورات والطروحات المثالية والوجودية وما تلاهما من تفكير فلسفي مؤطر بالعلم، لم نلمس دراسة وحدة الزمن إلا من خلال ما قدم غاستون باشلار في دراسته للزمن بشكل مفصل، وفي تفسير وتحليل بنية الزمن فلسفيا ونفسيا، فصارت العلاقة بين الإنسان والزمن بوجهة نظر معاصرة، وأصبحت هناك علاقة في إطار التأثر والتأثير بشكل متبادل بين المؤلف ونتاجه الروائي.
في رواية “الرجل المئوي” نكاد نجزم أننا نلمس المؤلف وارد بدر السالم في الأفكار المطروحة من قبل الزوج على وجه الخصوص، وفي ذلك التحديد المنهجي العلمي عند الزوجة، ومن الطبيعي أن مؤلف الرواية يؤمن بالواقع بنسبة أعلى بكثير من إيمانه بالظواهر الكبرى أسطورية النمط، وعنصر الزمن في بنية الرواية في جريانه من فصل إلى آخر يحيلنا نحو ذلك التتابع الزمني، والذي ينقطع ويعود كما في رواية “الرجل المئوي”، وذلك من خلال وقوف السرد عند نقطة نهاية الفصل، وبعد ذلك يبدأ السرد العودة من جديد لسرد الأحداث وبيان الأفكار.
امتازت الرواية بنوع من التوازن النوعي في التحولات الزمنية غير المعقدة، والفضاء الزماني لشخصيتي الراوي والسارد وزوجته، ولم يحدد بشخصيتي الزوجة والزوج، ففضاء زمان المسرح وفضاء زمن الرجل المئوي المزعوم، ومن يقوم بالثرثرة في انتصاف زمن الظهيرة، وتلك التوقيتات المتعددة فتحت أفق الرواية في عدة مسارات وسبل.