الراديكاليون الجدد في مواجهة ترامب

ما يجمع الحس الشعبي العام في أميركا، من اليمين إلى اليسار مرورا بالوسط، هو الإرادة القوية بعدم التفريط بموقع البيت الأبيض وسمعته من خلال تعريض رئيسه للخلع، وهذا غير مقبول بالنسبة للناخب الأميركي.
السبت 2019/12/28
ترامب ثالث رئيس أميركي يواجه المساءلة

من الأميز تعبيرا والأكثر اختزالا لجوهر الموقف السياسي في واشنطن خلال هذه الأيام، وضمن ما قرأت من عشرات التغريدات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي إثر فوز الديمقراطيين بجمع العدد اللازم من الأصوات في الكونغرس الأميركي للمصادقة على مشروع إدانة الرئيس دونالد ترامب وتجريمه بجنح عديدة تمسّ موقع الرئاسة الأميركية وتدعو إلى محاكمته من قبل مجلس الشيوخ، هو ما كتبه الشاب السوري الأميركي، حازم الغبرا، وهو مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأميركية وعضو في الحزب الجمهوري الأميركي، مباشرة بعد ظهور نتائج التصويت حين خاطب المتحدثة باسم الكونغرس وزعيمة الأغلبية الديمقراطية التي دفعت بقوة للوصول إلى النتيجة التي تريدها من هذا التصويت، كتب قائلا “شكري الخالص وتقديري لنانسي بيلوسي على إعادة توحيد الحزب الجمهوري”.

في اليوم التالي كتب الرئيس ترامب تغريدة موازية قال فيها “لم يستطع الديمقراطيون في مجلس النواب الحصول على صوت واحد من الجمهوريين على خدعة العزل. لم يكن الجمهوريون يوما موحدين كما هم اليوم”.

وبالفعل فقد تمكّن الموقف الديمقراطي المتشنج، وصاحب الأغلبية في الكونغرس، من توحيد صوت الأقلية الجمهورية من خلال تصويتهم بـ”لا” على قرار محاكمة الرئيس، الذي يطلق عليه إعلاميا بمصطلح “عزل الرئيس”، وهي قضية شائكة لا يرغب الأميركيون في أي حال الوصول إليها لأنها تمسّ الموقع الأكثر هيبة بالنسبة للمواطن الأميركي ألا وهو البيت الأبيض.

حقيقة الأمر أن ما حدث في الكونغرس كان محاكمة سياسية بامتياز، وقرارا أحاديا من الجناح الراديكالي اليساري صاحب الأغلبية العددية في مجلس النواب الأميركي. وما حدث أيضا أن الحزب الديمقراطي خسر ثلاثة من أصوات أعضائه لصالح الجمهوريين وقد صوتوا ضد العزل الذي ينفرد به حزبهم، بينما قرر النائب عن ولاية نيوجرسي، جيف فان درو، أنّه سينضم إلى الحزب الجمهوري في اليوم التالي لتصويته ضدّ مشروع عزل الرئيس.

يتّهم ديمقراطيو مجلس النواب الرئيس ترامب باستغلال سلطاته لمطالبة أوكرانيا بالتحقيق مع جو بايدن النائب السابق للرئيس باراك أوباما، والأوفر حظا لنيل ترشيح الديمقراطيين في انتخابات الرئاسة عام 2020. كما يواجه الرئيس اتهاما آخر يسوقه الديمقراطيون بعرقلة تحقيق الكونغرس في قضية الاتصال الهاتفي الذي أجراه مع نظيره الأوكراني. وعلقت بيلوسي إثر إعلانها قائمة اتهامات الرئيس قائلة، “الحقائق لا جدال فيها. لقد أساء الرئيس استغلال سلطته لمصلحته السياسية على حساب أمننا القومي من خلال حجب المساعدات العسكرية عن أوكرانيا في اجتماع حاسم للمكتب البيضاوي في مقابل التحقيق مع منافسه السياسي جو بايدن”.

الشارع الأميركي ينقسم حيال الحدث السياسي في الكونغرس بالتوازي مع الانقسام الحزبي تحت قبة المجلس
الشارع الأميركي ينقسم حيال الحدث السياسي في الكونغرس بالتوازي مع الانقسام الحزبي تحت قبة المجلس

ينقسم الشارع الأميركي حيال الحدث السياسي في الكونغرس بالتوازي مع الانقسام الحزبي تحت قبة المجلس. فالجمهوريون من أبناء الولايات الحمر التي تصوت بأغلبيتها للجمهوريين يرون أن تصويت الكونغرس هو أشبه بانقلاب على الرئيس المنتخب، بل هو هدف انتهجه الديمقراطيون على امتداد ثلاث سنوات ونصف السنة من حكم الرئيس ترامب، انتقاما لهيلاري كلينتون ولخسارتها الانتخابات الرئاسية في العام 2016 حين فاز منافسها دونالد ترامب بشكل فاجأ الجميع، بمن فيهم أعضاء فريق ترامب القائم على حملته الانتخابية.

تلك الفئة من الناخبين الذين ينتمون إلى جناح اليمين ويمين الوسط الأميركي قد سئموا الجزالة الخطابية، والوعود الرنانة الفارغة من أدوات تنفيذها، كما كانت تصلهم خطب الرئيس الأسبق باراك أوباما ومواقف دائرته الضيقة من النخب السياسية التي ابتعدت تماما عن نبض الشارع الأميركي، الشارع المتعطش لتغيير تلك اللغة الفوقية التي غدت ممجوجة ومملة بالنسبة له، والذي سرعان ما وجد في شخصية الرئيس ترامب و”شعبويته” خير ملاذ له من أضاليل فصاحة الديمقراطيين.

طبعا هذا لا يلغي أن الديمقراطيين هم الأغلبية المسيطرة على مجلس النواب (الكونغرس) الذي هو الممثل والناقل لصوت الشعب الأميركي إلى مواقع القرار السياسي. إلا أن ما يجمع الحس الشعبي العام في أميركا، من اليمين إلى اليسار ومرورا بالوسط أيضا، هو الإرادة القوية بعدم التفريط في موقع البيت الأبيض وسمعته من خلال تعريض رئيسه للخلع، والذي يعني خلعا موازيا لملايين الأصوات التي حصل عليها لدى انتخابه من مواطنيه وأنصاره، وهذا غير مقبول البتة بالنسبة للناخب الأميركي.

فالرئيس ترامب هو ثالث رئيس أميركي بعد ريتشارد نيسكون وبيل كلينتون، يواجه المساءلة بما ينص عليه الدستور الأميركي على المسؤولين التنفيذيين الذين يرتكبون “جرائم وجنحا كبيرة”؛ إلا أن نيكسون قدم استقالته قبل وصول طلب محاكمته إلى مجلس الشيوخ، بينما لم يعزل كلينتون بعد المحاكمة رغم ثبوت بعض التهم الموجهة إليه.

فصل المقال أن الإجماع الذي حدث في الموقف الجمهوري لدعم تجنيب الرئيس المساءلة القانونية، هو حالة استثنائية في أداء الحزب لكنها مثالية في مكانها وتوقيتها، وقد استطاعت أن تُحكِم التفاف الجمهوريين حول ترامب لحماية موقعه الرئاسي، بمن فيهم أشدّ المنتقدين لسياساته.

ذاك الإجماع الجمهوري قد ينعكس على الناخب الذي سيصوّت في العام 2020 لرئيس جديد مرتقب، وسيغيّر بالنتيجة المزاج الشعبي وكذلك قرار المواطن الأميركي الذي يعيش في حالة بحبوحة مالية غير مسبوقة، بتوفر فرص العمل للجميع، وانخفاض معدل البطالة كما لم يحدث منذ ما يقارب 50 عاما في أميركا، وذلك منذ وصول الجمهوريين والرئيس ترامب إلى المكتب البيضاوي في العام 2016.

9