الذاكرة في قلب الأزمة المتصاعدة بين الجزائر وفرنسا

فيلم وثائقي فرنسي يكشف عن تفاصيل مروعة عن استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية والغازات السامة خلال حرب التحرير الجزائرية.
الاثنين 2025/03/17
خلاف مستمر حول ملف الذاكرة

الجزائر - أثار قرار محطة “تي في 5” الفرنسية عدم بث فيلم وثائقي، تناول استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة المحظورة ضد الثوار والمدنيين الجزائريين إبان الحرب التحريرية، موجة من الجدل في الأوساط الإعلامية والسياسية، خاصة علاقة السلطة بالإعلام في فرنسا، ودور الأزمة السياسية بين البلدين في صدور القرار، مما سيحيي جراح الحقبة الاستعمارية في الجزائر، ويثير الجدل حول حقيقة خطاب حرية التعبير والرأي التي تتجند لها النخب الفرنسية لما يتعلق الأمر مع الكاتب بوعلام صنصال، وتتجاهلها لما يتعلق الأمر بجرائم ضد الإنسانية.

وكشف الفيلم الوثائقي “الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة”، الذي بثّه التلفزيون السويسري، تفاصيل مروعة عن استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية والغازات السامة خلال حرب التحرير الجزائرية، حيث تم استخدامه في ما يقارب 10 آلاف عملية لملاحقة الثوار والمدنيين العزل، خاصةً في الكهوف والمغارات التي كانوا يلجأون إليها فرارا من قصف القوات الجوية.

وجاء قرار إلغاء بثه من طرف التلفزيون الفرنسي “تي في 5″، بإيعاز من السلطة الفرنسية، ليثير جدلا صاخبا في الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية، لاسيما وأنه يتنافى مع مبدأ الحريات الذي يرفعه الخطاب الفرنسي. ففي الوقت الذي أحدث توقيف الكاتب الفرنسي – الجزائري بوعلام صنصال، أزمة غير مسبوقة بين البلدين، وتجندت نخب فرنسية من أجل الضغط على الجزائر لإطلاق سراحه، تقرر إلغاء بث فيلم يزيح الستار عن فظائع كبيرة ارتكبها الجيش الفرنسي في حق الجزائريين.

التاريخ والذاكرة المشتركة تحولا إلى مادة سياسية دسمة خلال أطوار الأزمة السياسية المتصاعدة بين الجزائر وفرنسا

ووصف مختصون في شؤون الذاكرة والتاريخ، قرار إلغاء البث، بـ”الفضيحة التاريخية”، التي كشفها فيلم “الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة”، بعد بثه من طرف التلفزيون السويسري “أر تي أس”، أين سلط الضوء على ملف الأسلحة الكيميائية المعتمد عليها من طرف الجيش الفرنسي في حربه على الجزائر طيلة احتلالها (1830 – 1962).

ويكشف الفيلم الذي أخرجه المؤرخ كريستوف لافاي وكلير بيي، عن جانب بقي “على الهامش” من تاريخ الثورة الجزائرية، برأي مختصين، حيث يتطرق لأول مرة إلى الحرب الكيميائية التي كان الجزائريون ضحيتها، بعدما ظل الحديث متمحورا سابقا حول الجرائم النووية.

وتحول التاريخ والذاكرة المشتركة، إلى مادة سياسية دسمة خلال أطوار الأزمة السياسية المتصاعدة بين البلدين منذ الصيف الماضي، الأمر الذي يوحي بأن الطرفين مستعدان للتلويح بجميع الأوراق بما فيها الذاكرة والهجرة وحتى الجوسسة لتصفية الحسابات السياسية.

وجاء قرار السلطة الفرنسية بعدم بث الفيلم المذكور، رغم أنه يوثق حالة تاريخية لا غير، ويكشف النقاب عن جرائم ضد الإنسانية ظل مسكوتا عنها خلال العقود الماضية، لينضاف إلى الجدل الذي أثير حول تصريحات الصحافي الفرنسي ميشيل أباتي، الذي يكون قد قرر المغادرة النهائية لراديو “أر تي أل”، بسبب معاقبته على تصريحه عن استعمار الجزائر، عندما شبّه أعمالاً ارتكبتها فرنسا في الجزائر، إبان الاستعمار، ببعض الجرائم النازية.

ويبدو أن الأزمة القائمة ستنسف تماما عمل اللجنة المختلطة التي نصبها الرئيسان عبدالمجيد تبون وإيمانويل ماكرون العام 2022، وستكون أول المتأثرين بانزلاق السجال السياسي إلى التاريخ والذاكرة المشتركة، في ظل تنامي تصريحات فرنسية يصب كثير منها في خانة “تمجيد الاستعمار” ونفي الوجود الجزائري في التاريخ والحضارة، ومنه فإن اللجنة المشتركة للذاكرة قد يتم نسف كل ما بُنيت من أجله، خاصة وأن البرلمان الجزائري يبدو مستعدا أكثر من أي وقت مضى لعرض قانون تجريم الاستعمار، في ردة فعل منطقية على ما يلوكه اليمين المتطرف في باريس.

ولم يستبعد مصدر جزائري مطلع، إمكانية انسحاب الجزائر تماما من اللجنة، طالما أن “الأصوات الناعقة من جانب مستعمرها الفرنسي هي سيدة الموقف وفي مثل هذه الظروف لا ينتظر قطف أي ثمار، وفي كل الأحوال فإن ملف الذاكرة سيبقى أعقد القضايا العالقة والحساسة جدا، التي تتحكم في علاقة الجزائر بباريس، لذلك لا يمكن فصل مستقبل اللجنة المشتركة حول الذاكرة عما يجري حاليا.”

في ظل تنامي تصريحات فرنسية يصب كثير منها في خانة "تمجيد الاستعمار" ومنه فإن اللجنة المشتركة للذاكرة قد يتم نسف كل ما بُنيت من أجله

ولفت المصدر، إلى أن تعليق المؤرخ الفرنسي بن جامين ستورا، عن تجميد عمل الصحافي جان ميشيل أباتي في إذاعة “أر تي أل” بعد تصريحاته بشأن جرائم الجيش الفرنسي يبرز “الخطر” الذي يواجه الباحثين عند كشفهم لـ”حقائق تاريخية”، وأن “الاستعمار ارتكب جرائم كبرى لا تزال مطموسة لعدة أسباب،” يوحي بحجم العقدة التي تعتري الفرنسيين تجاه الحقبة الاستعمارية للجزائر.

ويستند الفيلم الوثائقي “الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة” للمخرجة كلير بييه، (52دقيقة) إلى أبحاث استمرت قرابة عشر سنوات أجراها المؤرخ كريستوف لافاي، حيث جمع العديد من شهادات الناجين الجزائريين الذين عانوا ويلات الاستخدام المكثف لهذه الأسلحة.

ويقصد بـ”الأسلحة خاصة” الغازات السامة وعلى رأسها غاز (سي أن 2 دي) وهو خليط يحتوي على غاز مشتق من السيانيير وآخر مشتق من الزرنيخ الذي له تأثيرات مهيجة للرئتين والعينين والأغشية المخاطية، مما يسبب الصداع والتقيؤ، ويمكن أن تصبح هذه الغازات قاتلة في الأماكن المغلقة، كما كان الحال في الكهوف.

وفي الوقت الذي ذكر الوثائقي بأن استخدام الأسلحة الكيميائية محظور منذ عام 1925 (بروتوكول جنيف لعام 1925 الذي صادقت عليه فرنسا)، أشار إلى أنه إذا قبلت السلطات الفرنسية تناول موضوع غزوات جيشها خلال الحرب العالمية الثانية دون تردد، فإنها تلتزم الصمت التام بشأن استخدام هذه الأسلحة خلال حرب التحرير الوطني، وهو ما يتجلى في رفض وزارة الجيوش الفرنسية عدة مرات طلبات الباحثين والمؤرخين بالاطلاع على أرشيف حرب التحرير.

4