الدينار الليبي وثلاثية الحاكم والمفتي وأمير الحرب

ليبيا لا تزال تخضع لسياسة التخريب من خلال تحالف الحاكم والمفتي وأمير الحرب في معركة الخاسر فيها هو الشعب الطيب الذي يرى ثروته تنهب من تحت قدميه دون أن يستطيع الرد.
الأربعاء 2025/04/09
خفض الدينار عقاب للشعب الليبي بجريرة الفاسدين

قبل أيام، كشف تقرير أوروبي أن غنيوة الككلي، زعيم الميليشيا القوي في طرابلس، يطور شبكة أعمال واسعة في العاصمة الليبية ويحقق تقدمًا في قطاع النفط. وقال التقرير إن الرجل ليس من أبناء طرابلس، فهو وُلد في بنغازي حيث كان يعمل بمخبز العائلة، إلا أنه شكّل ميليشيا في منطقة أبوسليم عام 2011 وجعلها معقلًا له حتى يومنا هذا، ليتحوّل بمرور السنين من مجرد عنصر رئيسي في أجهزة أمن طرابلس إلى رجل أعمال بارز، يعمل بصورة جادة على الحفاظ على موقعه في أروقة السلطة، حتى لو تم استبدال حليفه عبدالحميد الدبيبة.

وأشار التقرير إلى أن الككلي تقرّب من الدبيبة وعقد معه تفاهمًا واضحًا يسمح له بتثبيت حلفائه في مناصب إستراتيجية مقابل الحماية والدعم في طرابلس. وقد ساعد هذا التفاهم على توسيع نفوذ الككلي بشكل أكبر، حيث سيطر على هيئة أمن المرافق الحكومية، الجهة الوحيدة المخولة بالإشراف على النقل الآمن للأموال النقدية بين البنوك الرائدة في منطقة طرابلس ومصرف ليبيا المركزي.

في ذات السياق، قالت جريدة “تلغراف” البريطانية إن أسامة نجيم، القائد الميليشياوي الذي انتقل من مهنة سائق تاكسي قبل 2011 إلى رئيس الشرطة القضائية في ليبيا حاليًا، بعد سنوات من إدارة سجن الردع في قاعدة معيتيقة، له علاقة ببريطانيا. وشملت الوثائق التي عُثر عليها بحوزته بطاقات مصرفية سارية المفعول من بنكي باركليز وإتش إس بي سي باسمه، بالإضافة إلى بطاقات عمل لصيدلية ومحامٍ متخصص في شؤون الهجرة بمكتب محاماة صيني – بريطاني في لندن، وبطاقات مفاتيح فنادق في إيطاليا وألمانيا. مما يشير إلى أنه سافر في أنحاء المملكة المتحدة وأجزاء أخرى من أوروبا دون أن يُعرف عنه شيء.

◄ الفتوى وضعت كل ما في البلاد من فساد ونهب وسرقة وعبث بالمقدرات في سلة واحدة ورمت بها على كاهل سلطات المنطقة الشرقية التي يختلف معها الغرياني وأتباعه ومناصروه

لاحقًا، تم الكشف عن مغادرة أسرة نجيم لندن بعد عملية تضييق من السلطات الإنجليزية على خلفية عمليات تتبع مالي وحجز أملاك تعود ملكيتها لأمير الحرب الملاحق من قبل محكمة الجنايات الدولية. وقد رفضت سلطات روما في يناير الماضي تسليمه إلى لاهاي، رغم أن القضاء الإيطالي كان أوقفه بالفعل خلال رحلة مع مرافقيه في تورينو لحضور مباراة كرة قدم لفريقه المفضل، قبل أن تقرر رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني تأمين عودته إلى طرابلس على متن طائرة خاصة.

هذه نماذج فقط تفضح ظاهرة الإقطاع الميليشياوي في ليبيا، وتحالف مراكز النفوذ السياسي والديني والاجتماعي مع قاعات السيطرة الميدانية التي يمثلها أمراء الحرب القادمون من قاع المجتمع قبل 2011، ليتحولوا إلى سلطات نافذة بثروات طائلة موزعة على الكثير من العواصم والمدن الإقليمية والدولية، وإلى مشاريع ضخمة واستثمارات واسعة النطاق ومؤسسات ترعى الفساد وتعمل على نهب ثروات البلاد والعبث بمقدرات الدولة.

ولو دخلنا مكتب أيّ واحد من أمراء الحرب، لوجدنا لديه ملفات جاهزة عن استثمارات الدولة في الخارج التي يسعى للسيطرة عليها وبيعها في إطار صفقات يشترك فيها أكثر من طرف: مسؤول حكومي، وزعيم ميليشيا، ومسؤول بنكي، وسلاح مرفوع في وجه القضاء، وسيارات مظللة لخطف أيّ ناشط يمكن أن يتجرأ على كشف الحقائق والجماعات المعتدية على سيادة الدولة وحقوق الشعب.

يعتمد كبار الفاسدين على مواقعهم داخل السلطة والميليشيات، لأنهم، وبكل بساطة، يعملون على تكريس واقع على الأرض مفاده أنه لا حل إلا بهم، ولا خروج من النفق إلا من خلالهم. وهو ما يعني الدخول معهم في مساومات لاحقة تضمن لهم الخروج الآمن بثرواتهم المنهوبة ومن دون عقاب على جرائمهم المرتكبة في حق الدولة والمجتمع.

عندما قرر مصرف ليبيا المركزي خفض قيمة الدينار، كان يعاقب الشعب المسكين بجريرة الفاسدين الممسكين بمقاليد الحكم. وكان يفصح للعلن عن وضع مأساوي للمالية العامة التي يتم التعدي عليها بشكل يومي من قبل تحالف السلطة والفساد. لكن لا أحد يستطيع التصدي للسوس الذي ينخر جدار السيادة وصناديق الثروة بمشاركة أمراء الحرب ومباركة الموكّلين على الدين.

في السابع من أبريل 2025، أصدرت دار الإفتاء التابعة لحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، والتي يتزعمها الصادق الغرياني المعزول من قبل مجلس النواب منذ 11 عامًا، فتوى بتحريم فرض ضريبة على بيع النقد الأجنبي. واعتبرتها من “المال المغصوب وكبائر الذنوب، وأشبه بأعمال الحرابة،” مطالبةً القضاء الليبي بالتدخل الفوري لوقف هذا الإجراء.

الفتوى ركبت صهوة الاقتصاد ورفعت سيف السياسة وتحصّنت بسلاح الميليشيات، ليس من أجل فضح الفاسدين، ولا من أجل الدفاع عن ثروات الدولة ومقدراتها، وإنما فقط للهجوم على سلطات المنطقة الشرقية. بما يعني تحويل الدين إلى صفارة في فم الغرياني وكرة بين أقدام المحسوبين عليه ومن يوفرون له المال الوفير لخدمة مشاريعه وتعويض سنوات الحرمان.

◄ كبار الفاسدين يعتمدون على مواقعهم داخل السلطة والميليشيات، لأنهم، وبكل بساطة، يعملون على تكريس واقع على الأرض مفاده أنه لا حل إلا بهم، ولا خروج من النفق إلا من خلالهم

نصت الفتوى على أن ما يُفرض على الناس من ضريبة على العملة (المكس) هو ظلم واضح، يذهب لتسديد نفقات “من يزوّرون العملة وينفقون على شهواتهم من أموال العامة،” لاسيما أن ليبيا تمتلك موردًا ثابتًا من النفط والغاز، ولو تم توزيع عوائده بالعدل لما احتاج الناس إلى أيّ ضرائب أو مكوس. مع التأكيد على أن الإنفاق الحكومي مجهول المصدر وتخصيص المليارات لما يسمى بإعمار المنطقة الشرقية لا يخضع لأيّ رقابة. وهو ما جعل دار الإفتاء تحمّل مصرف ليبيا المركزي مسؤولية فقدان الثقة بالدينار الليبي، بسبب القرارات التي تسببت في ارتفاع سعر الصرف وتدهور القدرة الشرائية، كما أنها تصف الضريبة على العملة بأنها غير شرعية، وغير قانونية، وظالمة، وتطالب الجهات القضائية والرقابية بتحمّل مسؤوليتها أمام الله وأمام الشعب الليبي.

هذه الفتوى وضعت كل ما في البلاد من فساد ونهب وسرقة وعبث بالمقدرات في سلة واحدة ورمت بها على كاهل سلطات المنطقة الشرقية التي يختلف معها الغرياني وأتباعه ومناصروه سياسيا وثقافيا وفكريا وعقائديا، ويرى فيها الشيطان الأكبر الذي يرجم كل يوم ألف مرة. لكن الصفقات المشبوهة والاعتمادات المصرفية الموجهة والمضاربة النقدية والمليارات من الدولارات المنهوبة وثروات أمراء الحرب الموزعة على القارات الخمس، وظاهرة الفساد الأسري التي باتت تزكم الأنوف، لا تحتاج إلى فتوى من الشيخ الصادق، والسبب أن دار الإفتاء ذاتها مستفيدة من الوضع الحالي، وهي توسّع نشاطها وتحقق المكاسب للقائمين عليها في إطار نصيبها من الريع مقابل صمتها على الفساد. كما أنها جزء لا يتجزأ من الحالة الميليشياوية باعتبارها تستند عليها وتتحصن بها وتتقاسم معها النفوذ.

ليبيا لا تزال تخضع لسياسة التخريب الممنهج من خلال تحالف الحاكم والمفتي وأمير الحرب في معركة شرسة الخاسر فيها هو الشعب الطيب الذي يرى ثروته تنهب من تحت قدميه دون أن يستطيع الرد على المعتدين الداخليين والخارجيين. ولكن لحظة يأسه قد تكون منطلقا لصحوته التي ينطلق فيها للانقلاب على المشهد بكافة تفاصيله.

9