الدول النامية أمام معضلة زيادة الديون بسبب الفواتير البيئية

الهدف الجديد لتمويل المناخ يفتقر إلى الوضوح في ما يتعلق بالمنح والقروض.
الخميس 2024/12/19
بلا ماء لن تشبع غريزتك للطعام

تتزايد المؤشرات وانطباعات الخبراء بأن الأساليب المتبعة للحكومات في الدول النامية لتمويل المناخ ليست مجدية كونها سياسة تتغذى من القروض والتي تؤثر بشكل واضح على اقتصاداتها وتقوض الحماية الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب من الدول الغنية إعادة النظر في سبل تقديم إستراتيجيات أكثر وضوحا لتجنب تعمق مشكلات الديون على نحو أكبر.

دكا - تجبر تكاليف أزمة المناخ المتزايدة الدول النامية على اتخاذ خيارات مؤلمة، وتضطر إلى سداد الديون بدلا من إنفاق الأموال على خدمات حيوية كالصحة والتعليم.

وتلقت البلدان النامية التي تتعافى من الفيضانات أو تتحول إلى الطاقة النظيفة 28 في المئة من تمويل المناخ في شكل منح خلال 2022، لكن المبلغ الباقي حُوّل إلى قرض. وأدى هذا إلى إغراقها في الديون الخارجية المرهقة والملحة.

وأكدت شيري رحمان، عضو مجلس الشيوخ ووزيرة تغير المناخ السابقة في باكستان، لمؤسسة تومسون رويترز أن تمويل المناخ أصبح مرتبطا بالديون بشكل متزايد.

وتنفق دول مثل باكستان مبالغ على مدفوعات الفائدة تتجاوز إنفاقها على الصحة والتعليم والبنية التحتية المهمة لحماية السكان من اضطرابات المناخ التي تؤثر على الغذاء والماء والإسكان.

شيري رحمان: تمويل المرونة مع الديون يندرج ضمن مصائد التعافي
شيري رحمان: تمويل المرونة مع الديون يندرج ضمن مصائد التعافي

وتعتبر رحمان أن محاولة تمويل المرونة مع الغرق في الديون أكثر تندرج ضمن “مصائد التعافي”.

وتعهدت الدول الغنية بتقديم 300 مليار دولار سنويا للدول النامية بحلول 2035 بموجب اتفاق تمويل المناخ الجديد الذي أمكن التوصل إليه خلال مؤتمر كوب 29، إلا أن المبلغ يتضاءل أمام مدفوعات الدول النامية للدين العام بقيمة 443.5 مليار دولار في 2022 وحده.

وتضمّنت الصفقة هدفا أوسع يتمثل في جمع 1.3 تريليون دولار سنويا بحلول 2035 من مصادر عامة وخاصة. ويتوافق هذا مع ما يراه الاقتصاديون مطلوبا وما دعت إليه الدول النامية من الحكومات الغنية.

لكن اتفاق كوب 29 فشل في تحديده كيفية تقسيم مبلغ الـ300 مليار دولار بين القروض والمنح، كما لم يفصل خطط معالجة ضائقة الديون التي تعانيها البلدان المعرضة لأزمات المناخ.

وقالت رحمان إن “هذا التعتيم قوّض الحماس.” وشدّدت على أهمية تفصيل مصادر التمويل وأنواعه، بما يشمل حصة المنح مقابل القروض.

وتراكمت مدفوعات الديون الإجمالية التي تواجهها البلدان النامية إلى مستوى يقلل من نجاعة منح التمويل المناخي.

وأنفقت 58 دولة نامية في 2022 ضعف المبلغ الذي تلقته في تمويل المناخ لسداد ديونها، وهو ما يعادل 59 مليار دولار مقارنة بنحو 28 مليار دولار.

ويتسارع الدين العام في البلدان النامية منذ سنوات. وينمو بمعدل أسرع مرتين مقارنة بالبلدان المتقدمة منذ 2010. وبلغ الدين 29 تريليون دولار في 2023. وأبقى هذا أكثر من نصف البلدان منخفضة الدخل عالقة في مواجهة التحديات التي خلقتها الديون.

محمد ذاكر: عدم متابعة إجراءات المناخ قد تخلّف تكاليف اجتماعية
محمد ذاكر: عدم متابعة إجراءات المناخ قد تخلّف تكاليف اجتماعية

وإضافة إلى معضلة التداين لتلبية الاحتياجات الاقتصادية، أجبرت الظواهر المناخية المتطرفة المتزايدة كالأعاصير والفيضانات والجفاف هذه البلدان على الاقتراض أكثر.

وتعاني المجتمعات التي وجدت نفسها على خط المواجهة المناخية من مشكلة سداد القروض. ويُذكر هنا مثال المزارعين الهنود الغارقين في الديون بعد أن دمّر الجفاف محاصيلهم وسكان السواحل في بنغلاديش الذين يضطرون للانجرار لفخ القروض لإعادة بناء المنازل التي دمرتها الأعاصير.

كما يزيد تمويل الإجراءات المناخية مثل خفض الانبعاثات أو الاستثمار في البنية التحتية المرنة كهياكل الحماية من الفيضانات وأنظمة الإنذار المبكر من توسيع حصة الديون.

وتثقل هذه القروض عبء الديون المفرط بالفعل الواقع على عاتق البلدان النامية. وتعتبر رضوانا حسن، مستشارة البيئة في بنغلاديش التي تواجه نفس المعضلة، هذا الأمر “غير مقبول على الإطلاق” بالنسبة إلى البلدان التي لم تلعب أيّ دور يذكر في خلق أزمة المناخ.

ويبلغ نصيب الفرد من الدين في بنغلاديش 80 دولارا. وأكد محمد ذاكر حسين خان، الرئيس التنفيذي لمركز أبحاث مبادرة التغيير ومقره دكا، أن ذلك يرجع إلى قروضها المرتبطة بالمناخ التي تشكل حصة كبيرة من إجمالي نصيب الفرد من الدين الخارجي البالغ 604 دولارات.

وأوضح خان أن البلدان قد تختار عدم متابعة الإجراءات المناخية بسبب قلقها من مخاطر الديون التي يمكن أن تخلّف تكاليف اجتماعية باهظة.

سانديب باي: على الدول الغنية رسم خرائط واضحة تحدد تمويل المناخ
سانديب باي: على الدول الغنية رسم خرائط واضحة تحدد تمويل المناخ

وهناك حوالي عشرين دولة صناعية منذ فترة طويلة ملزمة حاليا بالمساهمة في تمويل برنامج الأمم المتحدة للمناخ. وتم تحديد هذه القائمة خلال محادثات المناخ التي أجرتها الأمم المتحدة في عام 1992، عندما كان اقتصاد الصين لا يزال أصغر من اقتصاد إيطاليا.

ويحث سانديب باي، مدير الأبحاث في مبادرة سوانيتي، وهي مؤسسة أبحاث تدرس السياسات، الدول الغنية على رسم خرائط تحدد مقدار تمويل المنح المطلوب والإجراءات التي يجب تمويلها عبر الاستثمار أو القروض عند تقديم التمويل لتحولات الطاقة.

ويمكن أن تولدّ بعض الإجراءات المناخية عوائد مالية مهمة. ويُذكر على سبيل المثال أن الأبحاث التي أجرتها مؤسسة التمويل الدولية في 2020 حددت 30 تريليون دولار من فرص الاستثمار في المناخ في الأسواق الناشئة بحلول سنة 2030.

لكن الاستثمار لحماية المجتمعات التي أصبحت على خط المواجهة قد لا يقدم بوضوح ما يمكن جنيه من أرباح. ولا يعتبر تحميل تلك المجتمعات المزيد من الديون التجارية لتطوير المشاريع المناخية منطقيا.

وركزت الدعوات لمعالجة قضايا المناخ والديون على المؤسسات التي توجه تمويلات المناخ في شكل قروض.

ولقد قدمت بنوك التنمية متعددة الأطراف تمويلا إجماليا قدره 74.7 مليار دولار في مجال المناخ للبلدان النامية في 2023، ولم تتجاوز المنح التي رصدها معهد الموارد العالمية، وهو مجموعة بحثية عالمية غير ربحية، 6.7 في المئة من هذا المبلغ.

ويدعو النشطاء هذه المؤسسات على تقديم المزيد من التمويلات دون اعتبارها قروضا واتخاذ خطوات ملموسة تهدف لتخفيف عبء الديون. وتبرز المؤشرات الأخيرة بعض التقدم.

بينما تبدو البلدان الفقيرة المعرضة لخطر تغير المناخ غارقة في الديون، لا تتخذ البنوك العالمية سوى خطوات صغيرة لحل المشكلات

وقال سيجال باتيل، كبير الباحثين في المعهد الدولي للبيئة والتنمية، إن العالم يستيقظ ببطء على العلاقة بين المناخ والديون ويجرّب حلولا لتقليل عبء الديون، “لكن التغيير يحدث ببطء شديد.”

وأنشأ بنك التنمية الآسيوي، الذي يُعرّف نفسه باسم “بنك المناخ في آسيا والمحيط الهادئ”، صندوقا لتقديم المنح والقروض الميسرة لمحتاجيها، كالدول الجزرية الصغيرة النامية وأقل البلدان نموا.

وقال أرغيا سينها روي، كبير المتخصصين في تغير المناخ في بنك التنمية الآسيوي، إن “العديد من مشاريع التكيف تندرج ضمن الخدمات العامة وتخدم الفئات الأكثر تضررا، وهذا ما يجعل المساعدات أمرا ضروريا.”

وخصص بنك التنمية الآسيوي 430 مليون دولار خلال السنة الحالية في شكل دعم إضافي للبلدان الأكثر ضعفا مع منح تسهيلات في القروض الموجهة للدول الجزرية الصغيرة.

وتعمل المؤسسات العالمية على توسيع حصص المنح وتسهيل الاقتراض. كما تختبر أدوات مثل مقايضة الديون بمشاريع المناخ، حيث يمكن لأيّ دولة شطب جزء من ديونها مقابل اتخاذ إجراءات مناخية قابلة للقياس.

وأكملت بربادوس مثلا مقايضة ديون ناجحة استبدلت فيها الدولة الجزرية الكاريبية جزءا من ديونها بتمويل من المؤسسات الدولية للاستثمار في مشاريع المياه والصرف الصحي القادرة على الصمود في وجه تغير المناخ.

واقترحت رحمان خطوة أخرى مفيدة تشمل إيقاف السداد بالنسبة إلى الدول التي تعاني من ضائقة الديون عندما تتعرض للكوارث. وأشارت إلى الحاجة الملحة لإعادة تصور تمويل المناخ حتى لا تُجبر أيّ دولة “على رهن مستقبلها.”

ورغم وجود أدلة واضحة على تسارع الأخطار المناخية وتبعاتها في كل أنحاء العالم، فإن نقص تمويل التكيف يتزايد وأصبح يتراوح الآن بين 203.6 مليار دولار و384.2 مليار دولار سنويا، وفق تقرير أعده برنامج الأمم المتحدة للبيئة في عام 2023.

11