الدول العربية تنتظر حلولا ذكية لقطاع زراعي متدهور

بدأ اعتماد قطاع الزراعة على الذكاء الاصطناعي في الارتفاع قبل جائحة كورونا بسبب عوامل مثل تغير المناخ والنمو السكاني ومخاوف الأمن الغذائي، ولكن كوفيد – 19 أدى إلى تسريع الاعتماد على التكنولوجيا في الزراعة، ورغم قتامة المستقبل، هناك طاقة أمل يتيحها لنا الذكاء الاصطناعي؛ فهل سنعمل على الاستفادة منه، أم سننسحب جانبا وننتظر من يتصدق علينا؟
لندن – في عام 1973 هدد هنري كيسنجر بأن الغرب سوف يضع الغذاء مقابل النفط، وذلك في أعقاب حرب أكتوبر، وإعلان دول عربية مصدرة للنفط فرض حظر على الدول الداعمة لإسرائيل، وقد كان كيسنجر مدركا أن العالم العربي يستورد أكثر من ثمانين في المئة من احتياجاته الغذائية، كان من المفترض أن يعتبر تصريح كيسنجر ناقوسا ينبه الدول العربية للخطر المتربص بها، ولكن ذلك لم يحدث. ما حدث هو العكس تماما، حروب عبثية متتالية فقد العرب فيها ثرواتهم وشبابهم.
سياسات ارتجالية
من عام 2007 إلى عام 2008، تضاعفت الأسعار الوسطيّة للمواد الغذائية في العالم أجمع، ما أدّى إلى تدهور مستوى المعيشة لمئات الملايين من البشر، الذين باتوا يخصّصون بسبب فقرهم القسم الأكبر من مداخيلهم لتأمين الغذاء.
وبسبب عوامل اقتصادية وبيئية واجتماعية متعددة، أصبحت الأرض والمياه والموارد غير كافية بالفعل. وواضح أن انخفاض إنتاج الغذاء له تأثير مدمر بشكل خاص على البلدان النامية.
ومن المتوقع بحلول عام 2050 أن يتجاوز عدد سكان العالم 9 مليارات نسمة، وهذا يتطلب مضاعفة الإنتاج الزراعي لتلبية الطلب.
خلال خمسة عقود تقريبا اكتفى العرب بالدعاء إلى الله ليهطل عليهم المطر مدرارا، واستمروا في استيراد غذائهم، بينما اكتوت قطاعات الشعب الفقيرة بنار الغلاء.
وعلى الرغم من محاولات الحكومات العربية التقليل من الآثار المترتبة على ارتفاع تكاليف الأغذية المستوردة، فقد وجدت الأسر في كل من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة صعوبة متزايدة في الحصول على الغذاء.
اللحوم في معظم تلك الدول لا تجد طريقها اليوم إلى موائد شريحة واسعة من الشعب، بما فيها الطبقة الوسطى التي انضمت إلى طبقة الفقراء، سوى مرة واحدة بالعام. أما الأسماك فقد نسي معظمهم طعمها. حدث هذا قبل أن يسمع معظمنا بالتكنولوجيا الرقمية، وحتما قبل أن نسمع جميعا بالذكاء الاصطناعي والخوارزميات.
من السابق لأوانه الحديث عن ثورة رقمية كاملة في قطاع الزراعة الحيوي في الدول النامية
والسؤال ماذا سيحدث بعد عشر سنوات من الآن أو أقل؟
نحن مهددون فعليا بأمننا الغذائي. ولكن، رغم قتامة المستقبل، هناك طاقة أمل يتيحها لنا الذكاء الاصطناعي؛ هو وحده القادر على إيجاد الحلول، فهل سنعمل على الاستفادة منه، أم سننسحب جانبا وننتظر من يتصدق علينا؟
وكما هو الحال بالنسبة إلى مختلف القطاعات، تعود مشكلات الفلاحة إلى سلسلة من التراكمات والسياسات الارتجالية، أولى هذه المشكلات تتمثل في الأمية الفلاحية، التي تشكل عائقا كبيرا أمام استخدام التكنولوجيا.
لم تنته متاعبنا عند هذا الحد، مؤخرا أضيف لها وباء كورونا. وبالطبع لا نشير إلى عدد ضحايا هذا الوباء وكلفة مكافحته فقط، بل إلى ما هو أهم من ذلك، ونقصد به تغير العادات والسلوك البشري. سوف يخلف الوباء تغيرات لن تزول برحيله. أهم هذه التغيرات الاعتماد المتنامي على التكنولوجيا الحديثة وما بات يعرف باسم الثورة الصناعية الرابعة.
خيار مستقبلي
بدأ اعتماد قطاع الزراعة على الذكاء الاصطناعي في الارتفاع قبل جائحة كورونا بسبب عوامل مثل تغير المناخ والنمو السكاني ومخاوف الأمن الغذائي، ولكن كوفيد – 19 أدى إلى تسريع الاعتماد على التكنولوجيا في الزراعة كما في القطاعات الأخرى، خاصة مع عدم تمكن انتقال العمالة التي تشتغل على حصد المحاصيل بسبب الإغلاق.
ومن المتوقع أن ينمو إجمالي الذكاء الاصطناعي في السوق الزراعية من نحو مليار دولار في 2020 إلى 4 مليارات دولار 2026، بمعدل نمو سنوي 25.5 في المئة. كيف سيكون حالنا بعد انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي والأتمتة ونحن نكتفي بالمراقبة عن بعد؟
لقد شهدت السنوات الأخيرة تطورا كبيرا في تقنيات الذكاء الاصطناعي، بدءا بـ”سيري” وصولا إلى المركبات ذاتية القيادة. إنها التكنولوجيا الأكثر مناقشة اليوم.
ولم يعد هناك شك في أن الروبوتات والذكاء الاصطناعي هما أفضل خيار مستقبلي لتحقيق الأمن الغذائي، في وقت باتت فيه سلسلة التوريد الغذائي تواجه أزمة مستفحلة، بسبب قرون من سوء المعاملة البيئية، والإفراط في الزراعة، ونقص العمالة، والنمو السكاني، وهي عوامل تهدد احتياجاتنا الأساسية من المنتجات الزراعية والفلاحية.
أزمة يُعتقد أن الذكاء الاصطناعي والأتمتة يساعدان في الخروج منها، ومن آثار شيخوخة القوى العاملة. ومع دخول الطائرات دون طيار، والآلات الزراعية ذاتية القيادة، وغيرها من التقنيات، بات بوسع المزارعين تركيز جهودهم ووقتهم في تطوير محاصيل مستدامة.
ونستطيع متابعة الثورة التقنية في القطاع الزراعي بداية من استخدام الأقمار الصناعية لمراقبة المحاصيل عن بعد، للتنبؤ بحالة الطقس، وتحديد مواعيد نشر البذور أو تأجيل الحصاد وغيرها.
رقمنة السوق الزراعية
لن نكون مغالين إن اعتبرنا إنترنت الأشياء من أعظم الإنجازات التي حققتها التكنولوجيا في الزراعة، حيث أتاحت تصورا كاملا للمزارع، بدءا بنوعية التربة إلى مستوى الرطوبة وشدة الرياح، ومن شأن هذه الوسائل أن تساعد في تحديد عدد كبير من العوامل التي يمكن للمزارعين التحرك وفقا لها.
فهي قادرة على مراقبة مستويات المغذيات في الحقل، وتزويد المزارعين برؤى دقيقة في ما يتعلق بموعد ومكان زراعة المحاصيل لتحقيق أقصى قدر من المكاسب وتجنب هدر المحاصيل، وإعطاء ملاحظات حية على صحة النبات وتدارك صحة النباتات قبل انتشار المرض.
وبواسطة تقنية الأمن الرقمي سيكون سجل رحلة الغذاء، من المزرعة إلى المائدة عند المستهلك، متاحا للمراقبة وفي الوقت الفعلي، مما يعمل على الحد من التلف، وتحديد المناطق ذات الحاجة الأشد.
ويعتبر التصحر وتعري التربة من التحديات الأساسية أمام الأمن الغذائي، فالعالم يخسر سنويا 75 مليار طن من التربة، ووفقا لفريق الولايات المتحدة للزراعة فإن نحو 400 مليار دولار سنويا من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن انخفاض الإنتاجية.
ولحل هذه المشكلة طورت شركة “بيت” الناشئة ومقرها برلين تطبيقا يسمى “بلانتيكس” يحدد نقص المغذيات في التربة بواسطة خوارزميات تربط أنماط أوراق الشجر ببعض عيوب التربة والآفات النباتية.
ومن خلال الصور الملتقطة بواسطة كاميرا الهاتف يتم تزويد المستخدمين بتقنيات وحلول ممكنة بسرعة وبدقة تصل إلى 95 في المئة. ومؤخرا استحوذت “بيت” على شركة “سيل بي” الناشئة في سويسرا ولها فرع في الهند وهي منصة لرقمنة السوق الزراعية في الهند، تربط بين أكثر من 7000 شركة.
نحن مهددون فعليا في أمننا الغذائي، ولكن رغم قتامة المستقبل هناك طاقة أمل يتيحها لنا الذكاء الاصطناعي
وشهدت المزارع في الولايات المتحدة زيادة بنسبة 33 في المئة في عمليات رحلات الطائرات دون طيار (درونز) من منتصف مارس إلى منتصف أبريل، أي في قلب فترة الإغلاق.
وتركز شركة مثل “فارم شوت” الناشئة على تحليل البيانات الزراعية المستمدة من الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية والطائرات دون طيار. يمكن لبرنامجها إبلاغ المزارعين بالمكان المطلوب بالضبط لوضع الأسمدة. ويمكن أن تقلل من كمية الأسمدة المستخدمة بنسبة 40 في المئة تقريبا.
وتستخدم شركة “أي وير” خوارزميات التعلم الآلي والأقمار الصناعية للتنبؤ بالطقس وتحليل استدامة المحاصيل وتقييم المزارع لوجود الأمراض والآفات. ويتم تخصيص التنبؤات بناء على احتياجات كل زبون، وتوفر لمستخدميها الوصول إلى أكثر من مليار نقطة من البيانات الزراعية على أساس يومي.
ولا يقل استخدام المعدات العاملة بالذكاء الاصطناعي أهمية عن الأقمار الصناعية وإنترنت الأشياء. وهناك الكثير من الابتكارات بهذا الخصوص، تأتي على رأس القائمة فيها الروبوتات الزراعية التي تعمل الشركات على تطويرها للتعامل مع المهام الزراعية الأساسية مثل حصاد المحاصيل بأحجام أكبر وأسرع من العمال البشر.
وتعد القدرة على مكافحة الحشائش أولوية قصوى للمزارعين وتشكل تحديا مستمرا، لأن مقاومة النباتات للمبيدات أصبحت أمرا شائعا.
وتستخدم الشركات الروبوتات لمساعدة المزارعين على إيجاد طرق أكثر فعالية لحماية محاصيلهم من الأعشاب الضارة، وهذه التقنية تقضي على 80 في المئة من المواد الكيميائية التي يتم رشها عادة على المحاصيل ويمكن أن تقلل نفقات مبيدات الأعشاب بنسبة 90 في المئة.
وتم تطوير روبوت لمساعدة المزارعين على اختيار وتعبئة محاصيلهم، إذ يمكن استبدال 30 عاملا بشريا بروبوت واحد، وهنا يمكن حل مشكلة نقص اليد العاملة.
وأحدث استخدام الجرار الذكي ثورة في الصناعة الزراعية، فهو يسهل عملية الحراثة ورش البذور وعلى مسافات متساوية، كما يمكنه مراقبة مستوى النمو والتنبؤ بموعد الحصاد.
ومن المتوقع أن يصل سوق الطائرات دون طيار في الزراعة إلى 480 مليون دولار بحلول عام 2027، ورغم أن تاريخها يعود لثمانينات القرن الماضي، فإن استخدامها توسع بشكل كبير في الأعوام الماضية، في المراقبة ورش المبيدات وتلقيح الأشجار.
ويشمل القطاع الزراعي العديد من العمليات؛ بما في ذلك حصاد المحاصيل وإطعام الحيوانات والرعي، وإعداد التربة لتحقيق أقصى العوائد، وتعزيز وفرة المحاصيل، وخدمات البستنة وتنسيق الحدائق والخدمات البيطرية وإدارة العمالة الزراعية.
حلول ثورية

لهذا السبب يجب تثمين الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعبه، خاصة في تعزيز مكافحة الاحتباس الحراري، لمنع حدوث المزيد من التدهور.
ويتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على تعزيز الممارسات الزراعية الأكثر إنتاجية ولكن فقط من خلال تنظيم موسع لنموه. ويستخدم المزارعون الآن الذكاء الاصطناعي لتقنيات مثل الزراعة الدقيقة، وتتبع رطوبة المحاصيل، وتكوين التربة، ودرجة الحرارة في مناطق الزراعة، مما يسمح لهم بزيادة محاصيلهم من خلال دراسة كيفية رعاية محاصيلهم وتحديد الكمية المثلى من المياه أو الأسمدة.
وقطعت التكنولوجيا الزراعية شوطا طويلا، من اختراع صوامع الحبوب والأسمدة الصناعية إلى استخدام الأقمار الصناعية، وأي تحسين في إنتاجية صناعة الزراعة سيعتمد على الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، من السابق لأوانه الحديث عن ثورة رقمية كاملة في هذا القطاع الحيوي في الدول النامية. هناك حاجة ملحة في تلك الدول لتطوير حلول تقنية أفضل، وهذا ما نشهد حدوثه ولكن باستحياء وتردد.
العالم لن يقف وينتظرنا للحاق به، وهذا يتطلب تعاون الحكومات والقطاع الخاص، خاصة المؤسسات العلمية وشركات التكنولوجيا، للاستثمار في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي للانتقال إلى ما بعد الصناعة الزراعية.
العالم مقبل على رؤية حلول أكثر ثورية، وسيساهم تطبيق الذكاء الاصطناعي في الزراعة في نمو الصناعات الأخرى وفي حل مشاكلنا المستقبلية. لن تستطيع الحكومات الاكتفاء بموقع المتفرج، يجب أن تبدأ بتدريب المزارعين على كيفية استخدام هذه التقنيات، وشرح جدواها الاقتصادية على المدى البعيد.