الدولة العميقة في إيران تحاول ضبط الوضع المنفلت

يسعى النظام الإيراني إلى استغلال الأزمات التي ينخرط فيها لتعزيز قوته والحفاظ على تماسك قواعده ومؤسساته، حتى لو كانت تلك الأزمات تفرض تهديدات لا تبدو هيّنة بالنسبة إليه. يتوضح ذلك في تعامله مع التصعيد الحالي مع الولايات المتحدة، والذي لم ينحصر فقط في قرار الأخيرة بالانسحاب من الاتفاق النووي، وإنما في ظهور دعوات أميركية تضفي وجاهة خاصة على قضية تغيير النظام، باعتبار أن ذلك هو الحل الوحيد لتسوية المشكلات التي تتسبب فيها سياساته.
اكتسبت هذه الدعوات زخما بعد تعيين جون بولتون في منصب مستشار للأمن القومي، حيث كان من أكثر من نادوا بضرورة تغيير النظام الإيراني، قائلا إن “تصرفات النظام لن تتغير والطريقة الوحيدة هي تغيير هذا النظام”.
ورغم أن بولتون حاول مؤخرا التقليل من أهمية ذلك، باعتبار أن هناك فارقا في التوقيت بين الإدلاء بتلك التصريحات حيث لم يكن مسؤولا في الإدارة، وبين المرحلة الحالية حيث عين في منصب مستشار الرئيس للأمن القومي، بشكل حاول التلميح من خلاله إلى أن تلك الأفكار قد لا تترجم إلى خطوات عملية، إلا أن ذلك لم يمنع النظام من مواصلة استغلالها لتحقيق أهداف عديدة.
مثلت تلك الأفكار فرصة للقيادة العليا ممثلة في المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وتيار المحافظين الأصوليين لتحميل مسؤولية وصول الأوضاع إلى هذه المرحلة على عاتق حكومة الرئيس حسن روحاني ووفد التفاوض النووي، والترويج إلى أنها لم تبد ثقة مطلقا في نوايا واشنطن حتى بعد الوصول إلى الصفقة النووية.
وفي رؤية هذه الأطراف، فإن سياسة الحكومة أضعفت موقف إيران، بعد أن ضغطت للتوقف عن إجراء المزيد من تجارب الصواريخ الباليستية ولم تتخذ أي رد فعل على الإجراءات العقابية التي تبنتها واشنطن في العام الأخير. وساهم ذلك، وفقا لتلك الرؤية، في توجيه رسائل خاطئة لواشنطن، مفادها أن الضغط على إيران والتهديد بالتدخل لتغيير النظام بدلا من سياساته يمكن أن يؤتيا بنتائج إيجابية.
تبعا لذلك، فإن التنازلات التي قدمتها الحكومة لإنجاز الاتفاق تفوق بكثير العوائد التي حصلت عليها إيران بعد ذلك، والتي ستضعف أكثر بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق وإعادة فرضها عقوبات على إيران، بشكل يدفع الشركات الأوروبية إلى التراجع عن استكمال استثماراتها فيها.
بالتوازي مع ذلك، يستعد النظام والمحافظون الأصوليون في الوقت الحالي إلى استثمار تلك التطورات لتغيير توازنات القوى السياسية الداخلية في غير صالح تيار المعتدلين الذي يقوده روحاني.
وبدأت بعض القراءات تستحضر أجواء عامي 2004 و2005، عندما نجح الأصوليون، بدعم من مجلس صيانة الدستور الذي يسيطر عليه خامنئي، في إخراج المعتدلين من السلطة بشكل كبير.
اللافت هنا أيضا، ظهور دعوات في الأوساط السياسية والإعلامية الأصولية تنادي بضرورة دعم فرص وصول أحد جنرالات الحرس الثوري إلى منصب الرئيس، لأن روحاني لن يترشح مجددا بعد أن انتخب مرتين في هذا المنصب.
وبدأت حتى بورصة الأسماء في الظهور، وضمت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للباسدران، وقائد ميليشيات إيران في الشرق الأوسط، ومحمد باقر قاليباف، رئيس بلدية طهران السابق، الذي ترشح أكثر من مرة. لكن، تبدو فرص قدرة النظام على تبني هذا الخيار ضعيفة، لأنه يعول على قاسم سليماني في إدارة العمليات الخارجية، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان، وسيتزايد اعتماده عليه في الفترة القادمة، في ظل ما هو متوقع من إقدامه على استغلال نفوذه الإقليمي لتقليص الضغوط الدولية التي يتعرض لها حاليا.
مع ذلك، يعكس الأمر استعداد النظام لإعادة فرض سيطرته على كل مؤسسات الدولة وعدم السماح لتيارات تتبنى رؤى مختلفة بتصعيد نفوذها داخلها، حتى لو كانت موالية له، على غرار تيار المعتدلين.
ويعكس مدى حرص النظام على إنهاء ما يمكن تسميته بـ”الصداع السياسي” الذي تسبب فيه منصب رئيس الجمهورية دائما، الذي كان يحاول، خاصة خلال فترته الرئاسية الثانية، توسيع صلاحياته التنفيذية على حساب سلطات المرشد نفسه، على نحو دفع الأخير للتفكير في إلغاء المنصب برمته وإعادة العمل بمنصب رئيس الحكومة.
وسيضمن النظام بشكل كبير السيطرة على هذا المنصب، لأن رئيس الحكومة سيعين في منصبه بواسطة التيار السياسي الذي يسيطر على أغلبية مقاعد البرلمان، الذي يستطيع النظام ضبط توازناته بما يتوافق مع رؤيته وحساباته.
يحاول النظام الإيراني أيضا استغلال فكرة تغييره في الترويج إلى أن السبب الرئيسي لذلك لا يكمن في البرنامج النووي، وإنما في الدور الإقليمي الذي يقوم به في منطقة الشرق الأوسط ويروج إلى أنه يسعى عبره لحماية مصالح وأمن إيران. ويهدف ذلك إلى الرد على الانتقادات المستمرة التي توجهها تيارات داخلية للسياسة الخارجية للنظام، والتي دفعته، حسب رؤيتها، إلى استنزاف أموال الإيرانيين في مغامرات خارجية لا طائل منها.
ومن المتوقع أن يحاول الحرس الثوري استغلال التوتر والتصعيد الحالي لدعم نفوذه الاقتصادي مجددا. ويضغط الباسدران حاليا لدفع الحكومة إلى عدم التعويل بشكل كبير على استثمارات الشركات الأجنبية العاملة في طهران. وبدأت بعض تلك الشركات فعلا في وقف تعاملاتها داخل إيران أو التفكير في الخروج من السوق الإيرانية بشكل كامل، ما يمثل فرصة لا تعوض للشركات الاقتصادية التابعة للحرس الثوري، وفي مقدمتها “خاتم الأنبياء” للعودة لملء الفراغ الناتج عن ذلك.
وتسببت الصفقات الاقتصادية التي أبرمتها الحكومة مع تلك الشركات في تفاقم الخلافات مع الباسدران الذي اعتبر أنها محاولة لتقليص نفوذه الاقتصادي وإضعاف دوره بشكل عام.
ويتوافق ذلك مع مصالح وحسابات النظام، ليس فقط لتعزيز سيطرته على البنية الاقتصادية للدولة التي حاولت الحكومة تغييرها، وإنما أيضا للحفاظ على الدعم المقدم للحلفاء في المنطقة، والذي يتوقع أن يستمر إن لم يتزايد ردا على التوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة وإسرائيل والعديد من القوى الأخرى.