"الدكتور نازل" مغامرة جمالية في غابة الشكوك وقلق اللامستقر

الكدح السردي لطالب الرفاعي في كتاب "الدكتور نازل" القصصي يرتهن بشقاء الأثر المفكر فيه بروية وتقصد واقتصاد.
الأحد 2023/11/26
قصص تقودها شخصية تعاقبية متناسخة (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

يقول إدواردو غاليانو “بلدنا لا يعاني من قلة الأموال، بل من كثرة اللصوص”.

كثيرة هي المزيات الجمالية، والسمات النوعية، والخصيصات الأسلوبية، التي يقدمها لنا الكتاب القصصي الجديد للأديب الكويتي طالب الرفاعي، والموسوم بـ”الدكتور نازل”، الصادر عن منشورات ذات السلاسل بالكويت 2023.

مزيات وسمات وخصيصات شائعة كالجذامير العمودية أو الأفقية السارية بين صلب وترائب المتن الحكائي، المشكل من 24 حلقة سردية، وذلك من قبيل: الجملة الحدثية الومضية البارقة المسطورة بحد السكين/ واللغة القصصية المهجنة المسبوكة المازجة بين حذق الفصيح وبلاغة الدارج، وبين استطيقا الكتابي ومعيارية الشفهي/ والتوظيف البارع للأمثال الشعبية والموروثات الغنائية والشعرية المحلية/ والسخرية المؤسسة على مداميك التغريب والمفارقة والتقابلات الدلالية على صعيد المواقف والأفعال والشخوص/ وفتح مروحة الجنس القصصي على سعتها صوب طروس تخصيبية ومراجع إحالية مثل القصاصة الصحفية والشائعة والرسالة ووسائل الاتصال السبرانية/ ثم التقطيع والتشذير السردي سواء على مستوى الخبر أو الزمن.

f

بيد أن الإضافات الجوهرية، التي يعرب عنها هذا الكتاب القصصي اللافت مبنى ومعنى وتشخيصا، يمكن القبض عليها داخل نطاق البنيات والمرتكزات الفنية الآتية:

أولا: الشخصية النمطية الفارزة، المتجسدة في “الدكتور نازل”. وهي شخصية تعاقبية متناسخة، محملة برمزية الفساد الآدمي العاتي، تسعى بين أوصال ومفاصل المتتالية القصصية، بوصفها نقطة ترسيخ انتقالية تكفل تجسير المواصلة بين أرخبيلات المحكيات.

التجسير عينه، الذي عمل على تلويث صفاء النوع، وخلق تمفصلا جذابا بين القصة والرواية، إلى درجة يمكننا القول معها إن المبدع طالب الرفاعي يكتب في منطقة بينية رمادية غير عازلة، كما لو أنها محطة انتظار مزودة بباب دوار يتيح الذهاب والإياب بين الوقائع والسجلات، والمضي في اتجاه عقارب ساعة الحكي أو عكسها.

ثانيا: تبصير السرد عن طريق بلورة انثيالات لا منقطعة من الصور والمشاهد واللقطات والكادرات، التي تتجاور وتتحاور فيها عناصر منسجمة وأخرى متنافرة سواء حكائيا أو لغويا. فطالب الرفاعي يلوح في هذا العمل المتباين عن بقية مجموعاته أو مختاراته السابقة (من قبيل: رمادي داكن، الكرسي، سرقات صغيرة، حكايا رملية، مرآة الغبش، شمس، أغمض روحي عليك…).. يلوح كصاحب حانوت عطارة قصصي جهنمي، يخلط القريب بالمتباعد والعادي بالملغز والمتوفر بالنادر.

التبصير السردي ذاته، الذي هو دون ريب نتاج ذاكرة انتقائية وانتقالية مرئية وتصويرية لا تخطئها العين الحصيفة. وبموجب هاته الذاكرة الثرية، يستحيل القاص إلى فنان مونتاج يمارس كامل أنواع الحذف والإزاحة والتحوير على الأحداث والوقائع، كي تصير مقذوفة إلى الأمام صوب الديمومة والمستقبل، أو متواشجة مع ذاكرتها القريبة أو البعيدة.

f

ثالثا: التخييل الذاتي المرتبط بذات المؤلف ومعيشه اليومي ومواقفه الفكرية والأخلاقية الفعلية وكينونته كمنتج رمزي، ثم استضماره بوصفه خطابا ميتا – قصصيا بنائيا في خواتم الحلقات السردية.

إذ يغدو صوت طالب الرفاعي شخصيا أو تعليقه قفلا للمحكي وفي الآن ذاته تأويلا بعديا لقصديته المباشرة أو لمسكوته المتنائي. هذا الخطاب الميتا – قصصي الذي أضاف بعدا ثالثا  للإيقاع القصصي، فعلاوة على إيقاع السرد وإيقاع الأسلوب، أضيف إيقاع الذات إلى هذا الترس الخيالي، الذي أضحى يشتغل بطريقة مكعبة ثلاثية الأبعاد، تترجم قدرة النص القصصي العربي على توسيع مسامه، وتطوير روحه الباطنية، وتفتيق ممكنات جديدة، ومداخل مستحدثة للانطلاق به صوت مساحات بكر من الخلق والمغايرة.

خلاصة القول ورحيقه، يرتهن الكدح السردي للمبدع طالب الرفاعي في كتاب “الدكتور نازل” القصصي بشقاء الأثر المفكر فيه بروية وتقصد واقتصاد، ذي الصلة الوكيدة بانتهاك اليقينيات البالية والمتقادمة للكتابة، كونه سعى للبحث عن مسالك غير مطروقة، وعن أراض يتعذر على العاديين الالتحاق بها، وعن أمشاج مبتكرة للمتخيل.

إنها مغامرة جمالية داخل كثافة اللانهائي، وغابة الشكوك، وقلق اللامستقر، يقف القاص طالب الرفاعي في قلبها مثل لاعب الكريات في لوحة الفنان (مارك شاغال)، مستندا إلى ساق واحدة زرقاء اللون، ومتصورا نفسه طائرا له منقار أصفر وحوصلة حمراء، يحمل بيده اليمنى ساعة حائط معطلة جف الزمن بداخلها بغتة، ويبسط يده اليسرى في اتجاه الواقع لينشغل برسم الحيوات، تنضيد المصائر، وكشف حجب الأسرار.

10