الدعاية على الشبكات الاجتماعية انتقائية تحاكي ميول المستخدم

مؤسسة أرخميدس الإسرائيلية التي استهدفت تونس بنشر أخبار كاذبة لا تستهدف الإعلام التقليدي بقدر ما تهدف إلى توجيه مستخدمي الشبكات الاجتماعية في عصر أصبح فيه عدد من هؤلاء لا يصدقون إلا ما يرون ولا يرون إلا ما يصدقون. هو عصر ديمقراطية البيانات الشخصية المختلسة والتطبيقات الإلكترونية الدعائية.
تونس- استطاعت مؤسسة كامبريدج أناليتيكا، أثناء الانتخابات الأميركية عام 2016، أن تحدد أن الولايات الأميركية الثلاث، بنسلفينيا وميشيغان وويسكونسين، التي تصوت عادة للديمقراطيين، أصبحت إلى الجمهوريين أميل، بل استطاعت أكثر من ذلك أن تحصي عشرات الآلاف من الناخبين الديمقراطيين المترددين فأرسلت إلى كل واحد منهم عبر الشبكة رسالة شخصية تقنعه فيها بالتصويت لدونالد ترامب.
إن ما بات يُعرف بفضيحة كامبريدج أناليتيكا أبلغ دليل على ما يمكن أن يفعله مهنيو الدعاية بالشبكات الاجتماعية في السياسة. وكذلك تفعل مؤسسة أرخميدس الإسرائيلية التي أغلق موقع فيسبوك الخميس 265 من حساباتها التي تستخدمها للدعاية خاصة في المواعيد الانتخابية في بلدان كثيرة منها تونس.
إن مثل تلك المؤسسات التي يشتغل بعضها تحت عنوان العلاقات العامة، كمؤسسة بورسون ماستلار التي سمع عنها التونسيون وإن نسوا، تستخدم تطبيقات إعلامية متطورة جداّ (مثل ميمنتو وبلو ستايت وأدا أو تطبيق ترافا التي تستخدمها أرخميدس) لاختلاس بيانات المستخدمين ثم تتلاعب بالأخبار بهدف توجيه الناخبين أو خدمة لمؤسسات تجارية وصناعية ومخابر أدوية وغيرها.
ذات يوم من عام 2011 زار مواطن أميركي مركزا تجاريا كبيرا في مدينة منيابولس الأميركية محتجا على الإدارة التي ترسل لطفلته قصاصات للتخفيض في الأغراض المخصصة للحوامل. فوجئ الوالد لاحقا بأن طفلته كانت فعلا حاملا وأن خوارزميات خوادم المركز التجاري هي التي “أدركت” الحمل من خلال مقتنيات الفتاة. هي حادثة تظهر ما يمكن أن تعلمه الخوارزميات عنا.
إن تلك الأمثلة تدل على أن البرمجيات الإلكترونية الذكية لا تهدف إلى توجيه الإعلام التقليدي بقدر ما تهدف إلى توجيه مستخدمي الشبكات الاجتماعية أفرادا أو جماعات مثل ما حدث في انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أو الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون أو في الانتخابات التشريعية الألمانية عام 2017 أو في البريكست.
لذلك السبب لم يكن رد الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس مقنعا عندما قال نائب رئيسها السبت، معلقا على ما كشفه موقع فيسبوك في شأن أرخميدس “إن الهيئة ستمنع وسائل الإعلام الإلكترونية من نشر معلومات خاطئة عن المترشحين والأحزاب… وأنها ستراقب المواقع والوسائطالإلكترونية“.
إن الرد المناسب على الهيئة هو ما قالته رئيسة تحرير الغارديان كاثرين فاينر التي ذكرت عام 2016 أنه لم تخطر لها على بال نتيجة التصويت على البريكست، وأنها لم تر على حسابها أبدا ما يشير إلى غلبة الداعين إليه. لم تر ذلك لأنها كانت من مناصري بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي فاستثناها فيسبوك من المجموعات الداعية إلى المغادرة.
ويؤكد مثال آخر التوجيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بادر مدرس فرنسي غير معروف، اسمه إيتيان شوار، بالدعوة على حسابه الشخصي عام 2005 إلى التروي قبل التصويت لصالح الدستور الأوروبي.
وزار صفحته في اليوم الأول 25 ألف شخص وتواصل الأمر على ذلك النسق حتى أصبح حسابه موعدا لرافضي الدستور الأوروبي وهو أمر لم تقدر عليه كبريات وسائل الإعلام التقليدية الفرنسية.
ومما يمكن أن يقال لهيئة الانتخابات التونسية إن الصحافة الأميركية بأعرق ما فيها لم تر هي أيضا فوز ترامب قادما، في حين أن عددا لا يحصى من المستخدمين كان يبشر بذلك. لقد فوجئ الصحافيون الأميركيون بالأمر وذهب أوباما عام 2018 إلى القول “ما لم ننتبه إليه هو قدرة الحكام ومجموعات الضغط والحكومات الأجنبية على التلاعب بالشبكات الاجتماعية لممارسة الدعاية على الناخبين”.
لقد تحولت الدعاية على الشبكات الاجتماعية من دعاية تخاطب الجماهير إلى دعاية انتقائية تخاطب مجموعات صغيرة تدركها التطبيقات الذكية وهي دعاية لا تستهدف الإعلام التقليدي إلا عندما تدرك تلك التطبيقات والساهرون عليها أن الإعلام التقليدي أصبح فريسة سائغة للإعلام الاجتماعي.
ومن الصفحات التابعة لأرخميدس صفحة عنوانها “كفى تلاعبا بالأخبار وكفى أكاذيب” وظيفتها مهاجمة الإعلام التونسي. ويؤكد هذا المثال ما أصبح رائجا من أن الاستراتيجية التي تستخدمها تلك المؤسسات لا تهدف إلى التأثير في الناس لتغيير رؤاهم بقدر ما تهدف إلى ترسيخ قناعاتهم تاركة للمستخدمين أنفسهم جر آخرين إلى تلك القناعات.
ولا يخفى على أحد مدى كره عدد كبير من التونسيين لإعلامهم. فما الذي يدعو أرخميدس إلى إحداث حساب وظيفته صب الزيت على النار إن لم تكن الرغبة في تأكيد قناعات هؤلاء بما يرونه إعلاما رديئا وإعلام عار؟
وتعمد مثل تلك المؤسسات من خلال ما تنشره من أخبار زائفة أو موجهة أو غامضة أو منقوصة إلى تحقيق هدف جهنمي يتمثل في جعل المستهدفين يعيشون حالة من الشك في شأن مظاهر الحياة العامة تقودهم إلى عدم فهم ما يجري حتى يستقيلوا من الشأن العام وقد يصل بهم الشك إلى تكذيب الوقائع الصادقة.
وليس مستغربا أن تكون الحملات التي شهدتها تونس مثل حملة “وينو البترول” من أفعال مؤسسة أرخميدس أو غيرها. وإن كنا لا نملك معطيات عن الموضوع إذ أغلقت الصفحات التي كانت تديرها تلك المؤسسة، لذلك فإن الاستنتاج السليم يقود إلى ذلك.
ومن الوسائل التي تستخدمها تلك المؤسسات، لفرض نقاش على الشبكة يسير في سياق أهدافها الدعائية، وسيلة الشتم والعنف اللفظي. ولهذا الأسلوب “مزايا” دعائية متعددة منها طرد المستخدمين الذين لا تتماشى تعاليقهم مع الهدف المنشود ومنها الإيحاء بأن مستخدم الشتم والعنف اللفظي فرد شجاع يتحمل مسؤولية أقواله، ومنها محاولة جعله قائد رأي لا يخشى أمرا في سبيل قول “كلمة حق”.
غير أن الهدف الأساسي من ذلك يبقى اتساع النشر أو ما يعرف بالمنشورات الفيروسية التي تكتسح الشبكات الاجتماعية لخدمة الهدف المنشود. لقد أثبت رومان بادووار في كتابه الصادر في سبتمبر 2017 أن عدوى المنشورات الفيروسية تزيد كلما زاد مضمونها فظاظة وعنفا وبذاءة. إن الشتم والعنف اللفظي والبذاءة تقتل النقاش على الشبكات الاجتماعية وتفسح المجال أرحب لمرحلة ما بعد الحقيقة التي لا تقوم على تصديق الوقائع بل على تصديق ما ينشر من شحنات عاطفية.
لقد مول تأسيس كامبريدج أناليتيكا عام 2013 روبارت مرسار صهر ترامب. في ذلك العام رفعت ولاية نيويورك قضية ضد ترامب طالبة تعويضا بأربعين مليون دولار بسبب ومضة إعلانية كاذبة نشرتها الجامعة التي يملكها ترامب. كان الرجل وقتئذ يستعد لخوض
الانتخابات…