الدعاية الروسية أساسها فرّق تسد وليس تغيير وجهات النظر

موسكو - تختلف جهود الكرملين الدعائية عن سابقتها السوفييتية بسبب التكنولوجيا التي يمكنه الوصول إليها وأهدافه الشاملة المختلفة. ونجح في السابق التصدي للجهود السوفييتية بتوفير المعلومات التي سلطت الضوء على عدم صحتها، وهي مهمة كانت أسهل لأن الشعب السوفييتي وصل بالفعل إلى درجة التهكم من رسائل الكرملين.
لكن الجهود في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصبحت أكثر مكرا لأن المتخصصين في المعلومات لا يسعون لإقناع الآخرين ولكن لتقسيمهم مع الترويج للأفكار القائلة بأن جميع وسائل الإعلام متحيزة وأن الشعب يجب أن يستمع إلى كل ما يقوله الكرملين ويفعله.
ويرى الخبير الروسي مكسيم أليوكوف أن النظام الحالي لا يهتم كثيرا بالحقيقة، وقد يكون سعيدا حتى بإظهار طبيعته المزدوجة، فهو ينوي تدمير مفهوم وجود الحقيقة الموضوعية. وهذا ما يقسّم مستهلكي الدعاية الروسية إلى درجة أنهم لا يهتمون بما هو حقيقي ولا يستمعون إلى أي شخص أو أي مصدر إعلامي يتحدى ما يقبلونه.
وأصبح التحدي اليوم نتيجة لذلك مختلفا وأكبر مما كان عليه في الحقبة السوفييتية. ويعتبر الباحث أليوكوف في مجموعة "مختبر علم الاجتماع العام" البحثية الإعلامية الروسية ومقرها لندن أن مواجهة المعلومات المضللة من خلال فضح كل كذبة تعدّ أقل أهمية من ضرورة فضح النظام بأكمله الذي يستخدمه دعاة بوتين ولفت انتباه المجتمع الروسي كله إلى هذا المخطط.
لكن هذه المهمة تبقى أكثر تعقيدا، ويجب معالجتها إذا كان المجتمع الروسي يريد التعافي من البوتينية. ولن تنجح إلا إذا فهم خصومها أن مهمتهم الآن هي نفسها التي واجهها أسلافهم مع السوفييت. وإذا لم يفعلوا ذلك فإن جهودهم لفضح الأكاذيب، كما يؤكّد الباحث الروسي، قد تؤدي إلى نتائج غير منتظرة في مساعدة دعاة بوتين من خلال لعب دور في رواية موسكو الحالية بأن جميع المواقف مدفوعة بالسياسة وليس الاهتمام بالحقيقة، مما سيدفع العديد من الروس إلى الاستنتاج أن عليهم اتباع زعيمهم وما يرون أنه رأي الأغلبية.
كما اعتبر أن “آلة دعاية الكرملين هي أكثر تعقيدا مما تبدو عليه”، لأنها “لا تنشر معلومات غير دقيقة فقط، بل تستغل أيضا العلاقات بين الأفراد، وتؤثر على كيفية رؤية المواطنين لبعضهم البعض، وتقييم فرص انضمام الآخرين إلى التحرك الجماعي، وتحديد استعدادهم للانخراط في محادثات سياسية، سواء من خلال استهلاك المعلومات من وسائل الإعلام مع وجهات النظر التي يحملونها أو المشاركة في المناقشات مع المعارضين".
ولأن هذا هو الموقف الذي يريد دعاة الكرملين ترسيخه، نادرا ما يكون توفير الآخرين لمعلومات صادقة حول حدث ما كافيا لتغيير آراء أولئك الذين تستهدفهم رسائل السلطة الروسية. ويعتبر أليوكوف أن "من المهم مراعاة هذه الآثار غير المباشرة للدعاية” بالنسبة إلى أولئك الذين يريدون مواجهة أكاذيب بوتين، والاعتراف بأن اتخاذ خطوات لاستعادة رغبة الشعب في البحث عن الحقيقة والتحدث مع أولئك الذين يختلفون معهم يعدّ “حيويا لأي جهد في إطار الدعاية المضادة".
ويرى أليوكوف أن تأثير الكرملين المروج لفكرة أن جميع مصادر المعلومات منحازة أصبح ضارا وواسع النطاق، لأن إستراتيجيته تجعل أنصاره يحتقرون جميع مصادر المعلومات، مما يجعلهم لا يرغبون في الانخراط في أي عملية تتحدى معتقداتهم. وبدلا من ذلك “عندما ينظر الأفراد إلى المعلومات على أنها سلاح، من المرجح أن يتجاهلوا مصادر المعلومات التي تتحدى معتقداتهم” و”يتخلون عن المناقشة السياسية تماما”. وهذا يترك الناس متمسكين بمعتقداتهم، حتى عند تزويدهم بمعلومات دقيقة من مصادر أخرى، مما يجعلهم أقل استعدادا للتحاور وللتعاون مع بعضهم البعض أو تحدي النظام الحالي ورسائله.
وتبنّى عدد من القادة في بلدان أخرى هذه الإستراتيجيات، لكن الكرملين كان أكثر نجاحا لأنه عزز مساعيه مع الإصرار على أن المجتمع الروسي يتكون من أغلبية ساحقة من مؤيدي النظام وأقلية صغيرة “منحرفة” من المعارضين. ويعتبر أليوكوف أن "الأدلة الوفيرة تشير إلى أن إستراتيجية ‘فرّق تسد’ كانت فعالة"، وهي إستراتيجية تخيف البعض وتقود معظمهم إلى اتباع الرأي السائد بدلا من مواجهته.
◙ الجهود في عهد فلاديمير بوتين أصبحت أكثر مكرا لأن المتخصصين في المعلومات لا يسعون لإقناع الآخرين ولكن لتقسيمهم
ويشمل هذا الدراسات التي تظهر أن الذين يؤمنون بوسائل الإعلام الحكومية إيمانا مطلقا هم قلة قليلة حتى بين أولئك الذين يدعمون غزو بوتين لأوكرانيا، وهو ما يخالف الاعتقاد السائد، بينما أصر عدد كبير من مؤيدي النظام على أن غالبية أصدقائهم وأقاربهم "شاركوهم موقفهم الداعم للحرب".
ويؤكد الخبير الروسي أن "من المفارقات" أن "إظهار التحيز بشكل علني يمكن أن يكون إستراتيجية سياسية فعالة تعزز تأثير الدعاية بدلا من تقويضها. وقد يفشل هذا في الإقناع، لكنه يمكن أن يعزز الانتهازية السياسية” ويمنع المحادثات عبر الانقسامات السياسية ويؤثر على أنماط استهلاك ما يرد عبر وسائل الإعلام. ويقول إن المعارضين المحليين والأجانب فشلوا في إدراك هذا التحدي الأكبر وهم يواجهون بدلا من ذلك جهود التضليل التي يتبعها نظام بوتين بتكتيكات تستند إلى نفس الافتراضات التي نجحت خلال الحقبة السوفييتية.
وأكد أليوكوف على ضرورة أن يتغير هذا الوضع لأن ما يتبعه نظام بوتين يجعل مهمة أولئك الذين يعارضون جهوده الدعائية أكبر بكثير وأكثر أهمية مما يُعتقد. وإذا ما نجحت جهودهم في جذب الشعب الروسي بعيدا عن نبذ الإعلام كما يريد الكرملين، وإذا كانوا قادرين على إعادة خلق انشغال واسع النطاق بشأن الحقيقة والاستعداد للانخراط مع الآخرين للعثور عليها، وما لم يدرك خصوم موسكو الأيديولوجيون أن هذا هو التحدي المطروح، سيكون ظل نظام بوتين على مستقبل روسيا وضحاياها أطول بكثير وأكثر قتامة مما يعتقده أي شخص الآن. ويعني هذا بدوره أن أي فشل في تحقيق تلك الغايات ستكون له عواقب أكثر من فشل أي جهود دعاية مضادة سابقة.