الدروس الصحيحة من أزمة "تكوين" بمصر

لم تأخذ ردود الفعل من قبل بعض ممثلي مؤسسة الأزهر على إطلاق مركز “تكوين” في الاعتبار أنه معني بإيجاد حاضنة لمجددين من مختلف التيارات لمجابهة تحديات مختلفة، ولُوحظت إسهامات لعلماء وأكاديميين منتسبين للأزهر انطلاقًا من المنصة الجديدة، مثل سعدالدين الهلالي وعبدالباسط سلامة هيكل.
الانطباع الذي يخرج به من شاهد لقاء ممثل تكوين (إسلام بحيري) وممثل الأزهر (علي الأزهري) مع الإعلامي المصري عمرو أديب، كل على حدة، هو أن الأزهر لم ينتبه إلى أنه مصمم على تجميد الملف وتصدير فكرة أن التجديد يقتصر على علمائه رافضًا أن يدخل هذا المجال رموز من خارج المؤسسة الدينية، ما أدى بحكم سريان الحركة وتنشيطها من قبل مثقفي التنوير إلى ظهور من حاول التجديد من داخل المؤسسة الأزهرية ولم يفلح أو جرى تهميشه وطُوردت أفكاره، في فعاليات الحاضنة الجديدة (تكوين) التي دعا رموزها إلى التعاون مع الأزهر وتكاتف جميع أطياف المجتمع لتجديد الخطاب الديني.
مع تنوع وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية والبودكاست لم تعد فكرة المنع مناسبة للواقع الراهن، وفي العالم الافتراضي المشفر والمفتوح ينشر الجميع أفكارهم بمن فيهم الجهاديون والسلفيون والملحدون، وشكل المثقفون التنويريون في هذا الفضاء رقمًا مهمًا قبل أن ينتظموا من خلال عمل أكثر تطورًا ممثلًا في “تكوين”، ما يثبت نجاحهم في تواصلهم مع الجمهور، ورغبتهم في التأسيس لمجال عام تترسخ فيه ثقافة الحداثة.
◄ قرابة عشر سنوات مضت على دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى التجديد الديني، حيث طالب بثورة دينية عقب فترة وجيزة من توليه الحكم، ولا يزال التيار المحافظ رافضًا لمسارات الانطلاق والقيام بتجديد حقيقي
يؤكد ذلك إدراكهم لأهمية مساعدتهم للمؤسسة الدينية في التواصل والانفتاح على العالم وملاحقة عجلة التقدم والتطور الاجتماعي، ومساعدتها لهم في استيعاب أفكار الحداثة داخل تفاصيل التعليم الديني والإرشاد المُوجَّه إلى جمهور كبير يحترم المؤسسات الدينية، ويقبل قطاع كبير منه من الأزهر ما لا يقبله من الحداثيين.
النسب العالية في الشرق الأوسط التي قالت بالتوجه إلى الإلحاد والتخلي عن الدين وكانت أحد تجليات التخبط في ملف التجديد الديني والنفور من نماذج الحكم الديني، تشي بأنه إذا أبقى تيار الأزهر على طرقه القديمة رافضًا سياسة فتح الأبواب والنوافذ والتعاون مع نسخة التنوير التوفيقية التي تُعمِل العقل مع عدم الطعن في الثوابت العقدية سوف يُواجَه بنسخة أكثر راديكالية من التنوير، معادية بشكل صارم لرجال الدين والأديان، تبحث هي الأخرى عن صيغة حضور مُعلَن وتُذكّر بما حوّل فرنسا ضد الكنيسة الكاثوليكية التي كانت مهيمنة.
إذا كان الأزهر مهتمًا بمستقبل الإسلام بدلًا من تكديس السلطة باسمه فما عليه إلا أن يأخذ مكانه ويواكب المسيرة لُينهي عبر تعاطي مَرِن ومتطور مع المستجدات وبالتلاقي مع الجهود التجديدية لمدرسة المثقفين التنويريين كل الأشكال التي رُبطت بالإسلام من خلال الممارسات الرجعية للسلفية والإخوان والتكفيريين من حروب وصراعات طائفية وحكم شمولي وتطرف مجتمعي ومواد مرئية ومكتوبة مليئة بالكراهية.
الهدف من بناء روابط مع الإسلام التقليدي وخلق حواضن تستوعب جهود صوفيين وأزهريين وأكاديميين وفلاسفة وتربويين وباحثين وكتاب ومفكرين مستقلين وعلماء اجتماع، هو جعل الإصلاح الديني أولوية والنسخة الأصلية للإسلام المتسامح الرحيم القابل للآخر هي السائدة، خلال مرحلة تتزايد فيها أعداد من يتخلون عن الدين، ويتنامى العداء للإسلام وكراهيته حول العالم بسبب ممارسات السلفية وتيار الإسلام الحركي.
قد ينخدع البعض بالتراجع المرحلي للعنف التكفيري المسلح في الشرق الأوسط، بينما يكثف السلفيون نشاطهم بجهود ناشطين جدد، يتمتعون بحيوية وقدرة على إقامة روابط مع الشباب لتغذية مشاعر الاستعلاء والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، ما يعني النفور من كل منهج جديد أو مختلف، متهمين أصحابه بالنقائص وربما بالكفر والزندقة تجهيزًا للتعامل معهم بعنف، أي أن ذخيرة الإرهاب تتشكل وخزانه البشري يجري ملؤه.
◄ في العالم الافتراضي المشفر والمفتوح ينشر الجميع أفكارهم بمن فيهم الجهاديون والسلفيون والملحدون
إسهام مؤسسة الأزهر في أن تخفت الأصوات التي تطرح نقدًا عقلانيًا، رغم التحفظ على بعض الأصوات المثيرة للجدل، يُقوي تلقائيًا التيار السلفي المتشدد، ولن يتحقق إثراء ثقافي للنواحي الدينية والانفتاح على الرؤى الأكثر تماسكًا لتفكيك الجمود الذي يعاني منه الفكر الإسلامي، ما يعني السير حثيثًا باتجاه دولة دينية، داخل ديباجة دولة وطنية، يحرسها ويوجهها الأزهر ويرتع فيها السلفيون والمتشددون الذين اعتادوا التدخل في صغائر الأمور وكبائرها.
هذا ليس من مصلحة أحد، لا الدولة ولا المجتمع ولا الشعب، بل ليس من مصلحة الأزهر نفسه لأن نماذج الدول الدينية حتى لو كانت مُقَنعَة نفّرت منها الشعوب ولم تعد تطيقها.
في إيران مثلًا يطمح معظم المواطنين إلى العيش في جمهورية ديمقراطية وعلمانية وليس دولة دينية يديرها رجال دين ويتحكمون بها، وفي الشوارع يتحدى الناس أصحاب العمائم ما يعكس حالة الاكتفاء منهم.
ليس انتصارًا أن يجعل الأزهر المثقفين والمفكرين، ومن ضمنهم موضوعيون يعتمدون المعرفة العلمية الرصينة في التجديد مع اعتبار الحاجة الروحية والإيمانية للإنسان، يحجمون عن التطرق إلى مسائل دينية كي يتجنبوا وضعهم في دائرة الاتهام بالعداء للإسلام وصولًا إلى تعرضهم لمضايقات وتهديدات المتشددين.
◄ المثقفون التنويريون في العالم الافتراضي شكلوا رقمًا مهمًا قبل أن ينتظموا من خلال عمل أكثر تطورًا ممثلًا في “تكوين”، ما يثبت نجاحهم في تواصلهم مع الجمهور، ورغبتهم في التأسيس لمجال عام تترسخ فيه ثقافة الحداثة
لم يكن انتصارًا حينما أحرج الإمام الأكبر رئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخُشت في يناير 2020، الذي اجتهد في محاولة تجديد التراث خلال مؤتمر تجديد الفكر الإسلامي قائلًا (اتركوا التراث بحاله وابحثوا عن شيء آخر تنشغلون به)، فالنتيجة كما نرى، الفشل في نزع الشرعية عن الروايات المتطرفة والعجز عن زرع بذور الشك في أذهان أجيال من المتطرفين حول أسس نظرتهم للعالم والمجتمعات والدول.
وها هي رحى صراع لا تبدو له نهاية بين التراث الديني والحداثة والعولمة تدور، فضلًا عن مواصلة تجهيل الأجيال الجديدة من المسلمين، وهي حالة يتعمد التيار السلفي الإبقاء عليها، ناهيك عن عدم امتلاك أدوات التمييز بين العداء للإسلام (الإسلاموفوبيا التي شجبها الأزهر) والنقد الموضوعي للتطرف بمجتمع المسلمين في أوروبا، وهو ما لا يتحقق إلا بتشجيع الفكر النقدي المنطقي.
في وقت قياسي حدث التغيير بالمملكة العربية السعودية والفارق هائل بين ما قبل 2018 وما بعده هناك، بينما مضت على دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى التجديد الديني قرابة عشر سنوات، حيث طالب بثورة دينية عقب فترة وجيزة من توليه الحكم، ولا يزال التيار المحافظ رافضًا لمسارات الانطلاق والقيام بتجديد حقيقي، مكتفيًا بمسكنات لا تعالج الأسباب التي أدت إلى تطرف الخطاب واصطدامه بالقيم العصرية.
دعوة مؤسسة الرئاسة في مصر إلى التجديد تبعتها استجابة شكلية بهدف احتكار الملف وممارسة نوع من السلطة الدينية، بينما لو كانت الاستجابة في المضامين والأدوات منذ العام 2015 لتغيرت الأمور باتجاه تطوير المؤسسة الدينية وتعزيز الثقة بها باعتبارها صمام أمان الاستقرار الديني والاجتماعي والسياسي، وبالنظر إلى التحولات الراهنة في الإقليم والمستجدات محليًا ما عاد من الممكن القبول بكهنوت ديني داخل بلد يبني نهضة حديثة ويؤسس عمرانيّا وتنمويّا لدولة مدنية.