الدراما الجزائرية.. استقطاب أيديولوجي لصناعة الرأي العام

مسلسل "الدامة" يتسبب في انقسام فكري قوي بدوافع سياسية.
الخميس 2023/04/06
من عمق المجتمع المسكوت عنه

لو نتأمل ردود الأفعال التي تحدثها الأعمال الدرامية العربية سنويا سنفهم أهميتها في صناعة الرأي العام وإثارته، وبالتالي دورها كقوة ناعمة يمكنها تحريك المجتمع بشكل يعجز عنه السياسيون المنعزلون في أطر أحزابهم وطرق عملها القديمة. وهذا ما ينطبق حرفيا على الواقع الجزائري مثلا، الذي تسبب مسلسل هذا العام في إثارة المجتمع بشكل لافت.

الجزائر - أن تستهوي مسلسلات الدراما الشعوب العربية خلال شهر رمضان فذلك بات أمرا مألوفا، لكن في الجزائر تعدت هذا الوصف بكثير، فأصبحت واجهة تنفرد بصناعة وصياغة الرأي العام، تقيم الدنيا ولا تقعدها، في غياب أيّ نقاش سياسي أو اقتصادي آخر، رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد.

لقد صارت الجزائر في مواجهة “قحط” سياسي غير مسبوق لم يُشهد له مثيل منذ إقرار التعددية الحزبية نهاية الثمانينات من القرن الماضي، والمسؤولية برأي الكثيرين لا تقع على السلطة أو الحكومة، بل على المنظومة السياسية برمّتها، التي جعلت من الأحزاب والنقابات والمنظمات مجرد ديكور لا وجود حقيقيا لها على أرض الواقع. حتى من يسمون بـ"النشطاء" لا أثر لهم إلا في المساحات الافتراضية ودون تأثير.

حاولت صحيفة "الخبر" الأكثر انتشارا في البلاد قراءة هذه الظاهرة فكتبت عنوانا بالبنط العريض في صفحتها الأولى: "الأحزاب.. بحث في فائدة العائلات السياسية"، مشيرة إلى غيابها (الأحزاب) عن النقاش حول قرارات وقوانين تحكم المجتمع.

بيد أن هذا المجتمع الذي يعيش في حركية دائمة، هو من يقود بوصلة الأحداث نحو الاتجاه الذي يريد، وهو ما حاولت الدراما التلفزيونية استغلاله لصالحها خلال شهر رمضان الفضيل، الموعد “الوحيد والأوحد” لعرض أهم الأعمال الفنية، على اعتبار أن كل أنظار العائلات الجزائرية، بالنظر إلى خصوصية هذا الشهر، تكون موجهة نحو القنوات التلفزيونية المحلية.

جرأة “الدامة”

"الدامة" عنوان للعبة شعبية شبيهة بالشطرنج وصل صداه إلى مبنى مجلس النواب
"الدامة" عنوان للعبة شعبية شبيهة بالشطرنج وصل صداه إلى مبنى مجلس النواب

هناك إجماع في الجزائر على أن شهر رمضان، وبغض النظر عن معانيه الروحية والفقهية، هو مناسبة لاجتماع العائلات والأسر، لذلك يطلقون عليها وصف “لمّة رمضان” أو “رمضان يجمعنا”. لكن رمضان هذه السنة يبدو أنه تسبب في “انقسام فكري قوي” للجزائريين بسبب جرأة الدراما التلفزيونية التي تناولت مواضيع ما كان عليها أن تعالجها بالصورة والصوت، ربما لأنها تبقى مسائل من المحظورات في مجتمع لا زال يفتخر صوريا بكونه محافظا رغم أن الواقع المعيش مليء بالتناقضات.

لقد سيطر مسلسل “الدامة” وهو عنوان للعبة شعبية شبيهة بالشطرنج، على النقاش العام، ووصل صداه إلى مبنى مجلس النواب الذي صادق أعضاؤه على مواضيع أكثر أهمية من أحداث هذا العمل الفني الذي تبث حلقاته على التلفزيون الرسمي المملوك للدولة، دون أن يكون لهم ردود فعل مسموعة لدى عامة الناس. بينما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالآراء الداعمة لكونه ينقل حقيقة دامغة لا تحتمل القفز فوقها، وتلك الرافضة بدعوى أنه يسيء للذوق العام ولا يحترم الآداب والأخلاق.

الجدل واللغط الكبيران اللذان أثارهما “الدامة”، الذي يتناول قضايا اجتماعية كالمخدرات والإجرام، يعتبرهما الأستاذ الجامعي سعيد أمين بمثابة انتقال الصراع السياسي والأيديولوجي بشكل حصري من المنابر التقليدية التي فقدت بريقها وبالتالي شعبيتها إلى فضاءات أكدت على نجاعتها في استقطاب الجمهور العريض.

◙ الدراما الجزائرية تدق اليوم ناقوس الخطر وعلى الدولة الجزائرية الاستثمار في الأعمال الدرامية والفنية لصناعة شعب واع

وينوه سعيد، في تصريح له، إلى أنه بغض النظر عن مضمون الحلقات التي تم عرضها حتى الآن، فإن النقاش الدائر حوله تفوح منه رائحة السياسة والأفكار الأيديولوجية التي يريد طرف فرضها على طرف آخر، وهو ما فشلت المؤسسات السياسية كالبرلمان والأحزاب في طرحه عبر مختلف الفرص الني أتيحت لها.

ودافع التلفزيون الرسمي بشكل غير معهود عن “الدامة”، وحاول رد الصاع صاعين للمنتقدين في مشهد أحيا الآمال بتوجه جديد نحو انفتاح أكبر على آراء وقناعات أخرى، متغنيا في نفس الوقت بنسب المشاهدة القياسية التي جعلت من هذا العمل الأول وطنيا، والثاني عربيا.

وبدا أن سلطة السمعي البصري التي تقول إنها هيئة مستقلة من حقها أن تطلب توضيحات من التلفزيون الحكومي أو من أيّ وسيلة إعلامية أخرى مشابهة في حال وقوفها على تجاوزات، مستعدة للعب دورها، بعدما هزتها تعليقات كثيرة في صيغة احتجاجات في الفضاء الأزرق على لقطة من الحلقة الأولى تظهر شعار الحركة الانفصالية من أجل استقلال القبائل “ماك” المصنفة من قبل السلطات منظمة إرهابية.

ويتساءل البعض عن سر انتظار سلطة السمعي البصري حتى الحلقة السادسة للتحرك، ليفتح موضوع “سياسي” للنقاش يفترض أن الزمن تجاوزه، وأن النسيان لفّه.

عملان لوجه واحد

كشف الواقع حقيقة لا يقبلها الجمهور أحيانا
كشف الواقع حقيقة لا يقبلها الجمهور أحيانا 

يعلق يحيى مزاحم مخرج مسلسل “الدامة” على اتهام هذا العمل بالترويج لمنظمة إرهابية، فيقول إن الحق بيّن والباطل بيّن، وإنه لا شكوك أبدا في الانتماء الوطني لفريق العمل الذي يضم عددا من الممثلين الشباب ينحدرون من الحي الشعبي الشهير “باب الوادي”، الذي صوّرت فيه أحداث المسلسل، والذي كان لسنوات مصدر إزعاج كبير للسلطة كونه معقل الاحتجاجات الشعبية.

واضطر مزاحم، محاولا دحض الادعاءات، لنشر فيديو يظهر سكانا من الحي يقولون إنه لا توجد أماكن به تحمل رسائل سياسية وتروّج لـ”الماك”، وفي الوقت نفسه يدعمون هذا العمل التلفزيوني “المميز”. واتهم مزاحم بارونات الإنتاج التلفزيوني بالتشويش على نجاحه، موضحا أن الرموز التي كتبت على الحائط هي للمسلسل التركي الشهير “الحفرة” الذي حقق نجاحا منقطع النظير في الجزائر.

جرأة دراما رمضان لهذا العام تسببت بانقسام فكري قوي للجزائريين
◙ المجتمع الجزائري يعيش حركية دائمة ويقود بوصلة الأحداث وهذا ما حاولت الدراما استغلاله لصالحها

ويتساءل بطل "الدامة" مصطفى لعريبي عن سر تأثر المجتمع الجزائري بمسلسل تركي، في إشارة من دون شك إلى المواضيع الاجتماعية الحقيقية التي تناولها “الحفرة”، مؤكدا أن أعداء النجاح لا يعجبهم نجاح الدراما الجزائرية التي لا تظهر إلا في شهر رمضان. وينبه لعريبي لى أن دوره كممثل ليس طرح حلول بل نقل الواقع، مشددا على أن الفن هو جوهر الاختلاف.

أما الممثلة ريم تاكوشت فترى أن المخدرات ظاهرة حقيقية في المجتمع، وأنه يتعين على الأعمال الفنية أن تظهر الواقع الحي الحقيقي بعيدا عن المظاهر التي لا تمتّ بصلة إلى المجتمع الجزائري.

وتؤكد تاكوشت أن “الدامة” عمل ناجح، وأن الانتقادات لن توقف فريق العمل الذي سيواصل طريقه بثبات لأنه واثق من دعم الجمهور وثقته. ويقول الناقد السينمائي الطيب توهامي، إن الدراما الجزائرية تدق اليوم ناقوس الخطر، موضحا أن الحديث عن نسبة المشاهدة يعني في الوقت ذاته حديث عن أموال، خاصة إذا كانت قيمة كعكة الإعلانات محدودة جدا.

ويعتقد توهامي أن مهاجمة “الدامة” حملة غير بريئة تستهدف التلفزيون الحكومي وكل عمل فني ناجح من قبل 3 أو 4 شركات يديرها بارونات اعتادت على التحكم في سوق الإنتاج التلفزيوني، داعيا الدولة الجزائرية إلى الاستثمار في الأعمال الدرامية والفنية لصناعة شعب واع، زاعما أن الحروب القادمة ستكون حروبا ناعمة.

12