الدبيبة يحرق آخر أوراقه

الأحداث المتلاحقة أكدت أن الدبيبة غير قادر عل تحمل مسؤولياته وهو لا يرى مانعا من التضحية بأقرب الناس إليه إذا كان الأمر يتعلق بمصلحته وبمصلحة الجماعة التي بات واجهتها في السلطة.
الأربعاء 2023/08/30
هل انتهى الدبيبة سياسيا؟

لا أحد في ليبيا، وربما في المنطقة، يمكن أن يصدق أن نجلاء المنقوش ذهبت من تلقاء نفسها لتجتمع في روما مع وزير الخارجية الإسرائيلي. حتى في أكثر الدول فشلا تبقى الكلمة الأولى والأخيرة لمن يمتلك مقود تحديد المسارات الدبلوماسية والعلاقات الخارجية سواء كان رئيس الدولة أو رئيس الحكومة. في الحالة الليبية نفى المجلس الرئاسي أن يكون على علم بلقاء روما، وهو صادق في ذلك باعتباره أقرب إلى أن يكون كالأطرش في الزفّة، ومن جانبه حاول رئيس الحكومة إنكار دوره في تهيئة الظروف لفتح باب الحوار مع الجانب الإسرائيلي، وذلك بهدف تجنب الحرج السياسي والاجتماعي والغضب الشعبي العارم.

إن مجرد حضور إبراهيم الدبيبة، الرجل القوي في طرابلس، والمستشار السياسي لرئيس الحكومة، في اجتماع روما، يؤكد أن الموضوع لا يتعلق برغبة شخصية من وزيرة الخارجية لعقد جلسة تعارف مع نظيرها الإسرائيلي، ولكنه مرتبط بمسار سياسي واضح تم انتهاجه منذ سنوات، وتدعّم بعد تولى السلطات الحالية الحكم في مارس 2021 كنتاج للحوار السياسي الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة، وعرف الكثير من الشكوك في نزاهته وشفافية تصويت أعضائه في جنيف في فبراير من ذلك العام.

خلال العامين الماضيين، برز الدبيبة كواجهة لحكم أسرة لا تمتلك شرعية الإرث التاريخي والوجاهة الاجتماعية، وبعد أن كان مقررا بقاؤه في السلطة لمدة أقصاها 18 شهرا وفق الاتفاق السياسي المعلن في تونس في نوفمبر 2020، استطاع أن يوفر قوة قاهرة حالت دون تنظيم الانتخابات التي كانت مقررة في الخامس والعشرين من ديسمبر 2021، وبالكثير من المكر السياسي أفلح فريق الدبيبة في الانقلاب على المسار الانتخابي سواء كمترشح مفترض من فوق الشروط التي نص عليها الاتفاق، أو كمتمسك بمقاليد الحكم إلى أجل غير مسمى، وكمتحصّن بجملة العراقيل التي لا تزال تحول دون التوصل إلى حل للأزمة المتفاقمة في البلاد منذ 12 عاما، وهي التشتت الحكومي وانقسام المؤسسة العسكرية واستمرار نفوذ الميليشيات المسلحة وتكريس وجود القوات الأجنبية وفيالق المرتزقة، بالإضافة إلى سيطرة شبكات الفساد على دواليب الاقتصاد وحركة المال والاعتمادات المصرفية، وعقد الصفقات المشبوهة مع الشركات الكبرى، واعتماد الخطاب الشعبوي الذي دأب على تضليل الفئات الاجتماعية الهشة لضمان صمت الشارع أمام حالة النهب الممنهج للمال العام.

◙ الدبيبة حاول أن يحمّل المنقوش المسؤولية عن كل ما جرى، وفي نفس الوقت وفّر لها ضمانات مغادرة طرابلس نحو إسطنبول بالتنسيق مع الأتراك في مطار معيتيقة

كان واضحا أن الدبيبة يتحرّك ضمن فريق يعتقد أنه الأذكى والأقدر على القفز على حبال السياسة داخليا وخارجيا عبر الجمع بين ولاءات القوى المتنافسة وحتى المتناقضة في مواقفها وخياراتها، وكان يعتبر حكم ليبيا غنيمة من غير المعقول التنازل عنها، ومن الطبيعي أن يسعى إلى كسب الدعم الغربي بالأساس، منطلقا من فكرة مفادها أن التقرب من تل أبيب خير ضمانة لنيل رضاء الأميركان والأوروبيين، وهو ما تبين مؤخرا من خلال الحديث عن عدد مهم من الاتصالات مع الإسرائيليين جرت برعاية أميركية.

بعض المصادر تقول إن الدبيبة كان متحمسا لعقد صفقة مع تل أبيب، وبالمقابل كان خائفا من الغضب الشعبي في حالة الإعلان عنها، ويبدو أن أطرافا في الإدارة الأميركية سعت للضغط عليه من أجل التعجيل بالتقدم على طريق التطبيع خلال الأشهر القادم، وفي 22 أغسطس الجاري وصل الضغط إلى حد إعلان ممثلة الإدارة الأميركية بمجلس الأمن  ليندا توماس غرينفيلد أن بلادها منفتحة على تشكيل حكومة تصريف أعمال مصغرة “تكنوقراط” لقيادة البلاد حتى إجراء الاستحقاقات الانتخابية، داعية الأطراف الخارجية لاحترام رغبة الشعب الليبي لرسم مساره المستقبلي، وهو ما أثار حالة من الهلع في مكاتب طريق السكة، ودفع بالدبيبة إلى الاتصال بحلفائه الإيطاليين ودعوتهم إلى التسريع بتنظيم لقاء مع الإسرائيليين يعيد ترطيب الأجواء مع واشنطن.

تم عقد اجتماع روما في أجواء ودية كان الجانب الأميركي يتابع أدق تفاصيلها، كما كان الدبيبة يعوّل عليها في تكريس شرطه ببقاء حكومته إلى حين تنظيم الانتخابات التشريعية خصوصا وأنه يمتلك آليات يرى أنها كافية لوضع اليد على أيّ برلمان قادم منتخب، وذلك نظرا إلى أن للمنطقة الغربية أغلبية الدوائر الانتخابات وعدد الناخبين وبالتالي عدد النواب الذين يتم الاشتغال منذ فترة على أن يكونوا من المستقلين أو من بعض التيارات السياسية القريبة منه.

بصورة أوضح، كان الدبيبة يسعى إلى التعجيل بالتوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين لقاء الحصول على دعم أميركي بالبقاء في السلطة، وتم الاتفاق بالفعل على الاجتماع الذي انعقد يوم 24 أغسطس بين وزيرة خارجيته نجلاء المنقوش ووزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين شريطة عدم الإعلان عنه أو عن نتائجه إلا بعد توفير الظروف الملائمة، وهو ما وافقت عليه الإدارة الأميركية، لكن يبدو أن حسابات داخلية دفعت بالوزير كوهين إلى الكشف عن الاجتماع لتهتز الأرض من تحت الدبيبة في لحظة لم يكن ينتظر أن يعيش ارتجاجاتها العنيفة.

◙ حضور إبراهيم الدبيبة في اجتماع روما، يؤكد أن الموضوع لا يتعلق برغبة شخصية من وزيرة الخارجية لعقد جلسة تعارف مع نظيرها الإسرائيلي، ولكنه مرتبط بمسار سياسي واضح تم انتهاجه منذ سنوات

حاول الدبيبة أن يحمّل المنقوش المسؤولية عن كل ما جرى، وفي نفس الوقت وفّر لها ضمانات مغادرة طرابلس نحو إسطنبول بالتنسيق مع الأتراك في مطار معيتيقة، ثم خرج للناس وكأنه تفاجأ بلقاء روما، واتجه للاتصال بالمفتي المعزول وببعض قادة الميليشيات المقربين للتأكيد لهم على أنه بريء من تصرفات الوزيرة، لكن الإسرائيليين زادوا الطين بلة عندما أكدوا أن أعلى مستويات القرار في ليبيا كانت على علم بالاجتماع، وأن جسور التواصل مع حكومة الدبيبة لم تنقطع، وإنما كانت تنتظر موعد الإعلان رسميا عن قرار التطبيع. في الأثناء أعربت الإدارة الأميركية والمعارضة الإسرائيلية عن سخط كل منهما من تعجيل كوهين بتعرية ظهر الدبيبة أمام الغضب الشعبي الذي كان يخشاه منذ البداية ويسعى إلى تأجيله إلى حين خوض الانتخابات والفوز بها.

أكدت الأحداث المتلاحقة أن الدبيبة غير قادر عل تحمل مسؤولياته، وهو لا يرى مانعا من التضحية بأقرب الناس إليه إذا كان الأمر يتعلق بمصلحته وبمصلحة الجماعة التي بات واجهتها في السلطة، واليوم احترقت جميع أوراقه سواء بالنسبة إلى الإسرائيليين أو إلى الأميركان، وظهر في الصورة كرجل عاجز عن إقناع أقرب الناس إليه بالمشروع الذي يسعى إلى تنفيذه، بينما أصبحت نجلاء المنقوش في عيون المجتمع الغربي بطلة دفعت ثمن تنفيذها لأوامر رؤسائها.

هل انتهى الدبيبة سياسيا؟ كل المؤشرات تقول نعم، وتؤكد أن الورقة التي كان يساوم بها واشنطن والأوروبيين من تحت الطاولة لم تعد لها جدوى في مواجهة الأوضاع الجديدة التي تحتاج إلى ملامح مختلفة في إدارة شؤون الحكم في ليبيا.

9