الدبيبة وركوب التناقضات للبقاء في الحكم

تبدو ليبيا على صفيح ساخن مع ارتفاع مؤشرات التقسيم الذي قد يتحول إلى أمر واقع، نتيجة مغامرات رئيس الحكومة المنتهية ولايتها في العاصمة عبدالحميد الدبيبة، وقراراته المرتجلة التي لا يهدف من ورائها إلا لاستغلال الخلافات والصراعات والتناقضات الداخلية والخارجية لتأمين موقعه في الحكم إلى أجل غير مسمّى، مع استخدام جميع آليات النزاع والشقاق في تكريس سلطة الأمر الواقع.
ما يهم الدبيبة ليس استقرار ليبيا ولا الحل السياسي ولا المصالحة الوطنية ولا تنظيم الانتخابات، وإنما البقاء في منصبه الذي وصل إليه في ظروف غامضة، والالتصاق بالكرسي لخدمة مصالح وأهداف عرّابيه ممن يعتبرون البلاد غنيمتهم التي لا يمكن التنازل عنها، ولو احتاج الأمر إلى انقلاب على جميع المسارات السياسية لتشكيل سلطة دكتاتورية تشتري شرعيتها المزعومة بإعلان التبعية الكاملة لصانعي القرار الدولي.
يستفيد الدبيبة من الصراع القائم بين “الكرامة” و”فجر ليبيا”، أي بين الجيش الوطني الذي يبسط نفوذه على مساحات شاسعة من جغرافية البلاد ويتخذ من ضاحية الرجمة ببنغازي مقرا له، وبين الميليشيات المسيطرة على العاصمة والمنطقة الغربية والتي تغلغلت في مؤسسات الدولة وسيطرت على مراكز القرار، وأصبحت تمثل أكبر حجر عثرة في طريق الحل السياسي والمصالحة الوطنية، وهي اليوم الحليف الموضوعي لحكومة الوحدة المنتهية ولايتها، والقوة التي تحميها وتضمن لها البقاء كسلطة أمر واقع من منطلق توافقي على تقاسم المصالح بين الطرفين.
◄ حتى الحرب في أوكرانيا سارع الدبيبة للاستفادة منها بتقديم نفسه للأميركان على أنه حارس مصالحهم في ليبيا، وأن بقاءه في الحكم يعني قطع الطريق أمام أيّ سلطة جديدة قد تكون على صلة بروسيا
عندما حاول رئيس الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب فتحي باشاغا تسلم مقاليد الحكم في طرابلس، وجد قبالته عددا من الميليشيات التي أعلنت الحرب على كل من يحاول المساس بسلطة الدبيبة، ولا تزال إلى اليوم تتمسك بموقفها، لاسيما بعد تسليم حقيبة الداخلية إلى أحد أهم أمراء الحرب وهو عماد الطرابلسي، الذي كان يشرف على ميليشيا الأمن المركزي، وهو قرار مرتبط بالمواجهة المفتوحة التي يتزعمها الدبيبة من أجل البقاء في مكتب رئيس مجلس الوزراء بطريق السكة.
يتحدر الطرابلسي من مدينة الزنتان التي يتحدر منها كذلك اللواء أسامة الجويلي الذي يقود تجمعا ميليشياويا داعما لباشاغا، وعندما قرر رئيسا مجلسي النواب والدولة عقيلة صالح وخالد المشري الاجتماع في الزنتان أوائل ديسمبر الجاري برعاية بعثة الأمم المتحدة للتشاور حول إمكانية تشكيل سلطة تنفيذية جديدة تسيطر على كامل أرجاء البلاد، تدخلت الميليشيات الموالية للحكومة المنتهية ولايتها لتحول دون عقد الاجتماع في حين اكتفى المبعوث الأممي بالحديث عن تأجيل اللقاء “لأسباب لوجستية خارجة عن إرادتنا” وفق تعبيره.
يستغل الدبيبة الصراع القائم بين التيار الثوري الفبرايري الراديكالي والنظام السابق، ورغم أنه كان من أبرز المستفيدين من نظام القذافي، وكان مقربا من سيف الإسلام ووالده، ورغم أنه جاء إلى الحكم ببرنامج عمل يهدف إلى تحقيق المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي الأليم، إلا أنه تجاوز كل ذلك في اتجاه تكريس التفرقة بسعيه إلى منع ترشح سيف الإسلام القذافي إلى الانتخابات الرئاسية.
تبنى الدبيبة خطاب مفتي الإرهاب الصادق الغرياني، وقطع الطريق أمام تنفيذ أحكام القضاء بالإفراج عن رموز النظام السابق المبرّئين من التهم الموجهة إليهم، وصولا إلى تسليم الضابط السابق بجهاز الأمن الخارجي أبوعجيلة مسعود المريمي للسلطات الأميركية دون إذن قضائي ودون توافق وطني ودون تحقيق داخلي ودون علم النائب العام، لمقاضاته بتهمة التورط في تفجير لوكربي الذي يعود إلى العام 1988، والذي اتفقت حكومتا الولايات المتحدة وليبيا على إغلاق ملفه إلى الأبد بعد التوصل إلى تسوية جمعت بين الحكم الصادر عن القضاء الأسكتلندي وتقديم تعويضات لأسر الضحايا بلغت 2.7 مليار دولار.
وبدل أن يعتذر عن تسليمه مواطنه إلى دولة أجنبية دون مسوغ قانوني، استغل الدبيبة الموقف للحمل على النظام السابق ورموزه وأنصاره، وبالتالي إلى كسب تعاطف ودعم الفبرايريين في مواجهة السبتمبريين بالاعتماد على الشعارات الثورية الإقصائية في سياقات سياسية واجتماعية ومناطقية وعقائدية، فما يهمه حاليا هو الظهور في صورة المؤتمن على ثورة فبراير ضد معارضيها، والساعي إلى البقاء في السلطة لتحصينها من محاولات استهدافها من قبل أنصار النظام السابق.
لا يكف الدبيبة عن اللعب على حبال التناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلد الثري والشاسع والمتنوع والمنهوبة مقدراته والمسلوبة إرادته، ولا عن الظهور بملامح زعيم جهوي لإقليم طرابلس انطلاقا من مدينته مصراتة، خصوصا وأن مؤسسات الدولة السيادية وعلى رأسها مؤسسة النفط والمصرف المركزي توجد تحت سيطرته، وإيرادات النفط والغاز تخضع لمتابعته اليومية، كما أن المنطقة الغربية تعتبر أكبر تجمع ديموغرافي وأهم خزان انتخابي في البلاد، ومن أهدافه وفريقه، استغلال تلك الميزة عبر ركوب موجة الخلافات سواء مع قيادة الجيش أو مع مجلس النواب أو مع الحكومة الموازية، لتجييش أكثر ما يمكن من الأتباع لضمان ديمومة البقاء في الحكم.
يبحث الدبيبة عن آفاق أرحب لطموحاته، فيتجه إلى الأتراك ليعقد معهم جملة من الاتفاقيات بهدف توفير الغطاء الإقليمي لمشروعه الدكتاتوري الناشئ، ولضمان المساندة الميدانية في أيّ مواجهة مسلحة مع الطرف المقابل، سواء بالاعتماد على القوات التركية الدخيلة أو بجحافل المرتزقة التي لا تزال تحتل عددا من المعسكرات في طرابلس والمنطقة الغربية وتخضع لقاعة العمليات المرتبطة مباشرة بوزارة الدفاع في أنقرة.
◄ عندما حاول رئيس الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب فتحي باشاغا تسلم مقاليد الحكم في طرابلس، وجد قبالته عددا من الميليشيات التي أعلنت الحرب على كل من يحاول المساس بسلطة الدبيبة
ومن الطبيعي أن يتحالف الدبيبة مع كل العناصر الليبية القريبة من تركيا مهما كانت المجالات التي تتحرك في إطارها، وأن يحدد رؤيته للعلاقات الإقليمية والدولية وفق وجهات نظر نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كأن يدخل في مواجهة مفتوحة مع اليونان، ويتحرش بشكل مباشر بالدولة المصرية وسياساتها، وأن يحاول ممارسة الخداع في خطته للتقرب من الدول الخليجية المعروفة باعتدالها، ويمضي ليدخل في محور انتهازي مع الجزائر بمباركة تركية – قطرية – إخوانية، حيث يهدف إلى الاستفادة من دور جزائري في إقناع الأفارقة والأوروبيين والأميركان بأن لا مفر حاليا من إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، وبأن الحكومة الحالية في غرب البلاد هي التي تستطيع الحفاظ على مقومات الأمن والاستقرار، وأن أيّ محاولات مصرية لفرض حكومة قد تدفع بالبلاد إلى مربع الفوضى من جديد.
حتى الحرب في أوكرانيا سارع الدبيبة للاستفادة منها بتقديم نفسه للأميركان على أنه حارس مصالحهم في ليبيا، وأن بقاءه في الحكم يعني قطع الطريق أمام أيّ سلطة جديدة قد تكون على صلة بروسيا، وهو لا ينسى في كل لقاءاته مع المسؤولين الغربيين أن يتهم سلطات شرق البلاد وخاصة مجلس النواب وقيادة الجيش بالتبعية لموسكو وبالاعتماد على شركة فاغنر للمرتزقة، وأن يستحضر أجواء الحرب الباردة بالإعلان عن استعداده للتبعية لأجندة الناتو، لاسيما أن هناك صراعا حقيقيا يدور بين روسيا والغرب في منطقة الساحل والصحراء وهناك مخاوف من أن يتسع أكثر، وأن تنجح موسكو في أن تتخذ من ليبيا الثرية وذات الموقع الإستراتيجي المهم على الضفة الجنوبية للمتوسط مركزا للتحكم والسيطرة في محيطها الأفريقي.
لا يترك الدبيبة أيّ فرصة للتمسك بالحكم دون أن ينقض عليها، وهو يحيط نفسه بفريق من صيادي الفرص ومستكشفي الشقوق التي يمكن النفاذ منها لتحقيق مصالح أكثر، والى ضمانات أوسع بالبقاء في صدارة المشهد، رغم أنه يفتقد إلى الشرعية الدستورية والقانونية والى المساندة الشعبية وإلى توافق الليبيين حول دوره، ومسؤوليته والثقة في قدرته على القيام بالدور الذي يستحوذ عليه بحكم الأمر الواقع، وبمخرجات التبعية لأمراء الحرب وأباطرة الفساد وشبكات المضاربة في الداخل ولأصحاب القرار الإقليمي والدولي.