الدبيبة لا يريد الحرب.. ولكن يدفع إليها

لا يترك رئيس الحكومة المنتهية ولايتها في ليبيا عبدالحميد الدبيبة مناسبة للكلام دون التأكيد على أنه ضد الحرب، وأنه جاء إلى الحكم ليعيد للبلاد أمنها واستقرارها، وليفتح أمام الشعب بوابة الأمل، ويقدم للشباب فرص الانطلاق نحو المستقبل بالكثير من التفاؤل والروح الإيجابية، وليرفع في ساحات المدن والقرى وميادينها وشوارعها خيام الفرح بدل سرادقات العزاء، لكن، وبالمقابل ينكشف واقع مختلف من خلال ممارساته على طريق التشبث بالسلطة وامتيازاتها، حيث لا يرى مانعا من الدفع نحو الحرب وسفك دماء الأبرياء لتأمين كرسي الحكم والمحافظة عليه إلى أجل غير مسمّى. وقد اختار، منذ تم انتخابه رئيسا للحكومة في ملتقى الحوار السياسي في جنيف في فبراير 2020، أن يحتفظ بحقيبة الدفاع لنفسه، فهو يرى أنه قد يحتاج إلى ذلك المنصب في تحديد مسارات الحرب والسلام وفي تكريس نفوذه على سلطة السلاح بالمنطقة الغربية على الأقل، وكذلك على فحوى الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع دول خارجية، ولاسيما أن حكومته هي التي تحظى بالاعتراف الدولي وتملك زمام التحكم في الصفقات المعلنة والخفية.
هذه الأيام، يعتقد الدبيبة أنه انتصر بالضربة بالقاضية في حربه التي اصطنعها لتأكيد سيطرته على العاصمة، وبالتالي للبقاء في كرسي الحكم الذي يرفض مغادرته مهما كان الثمن، وهو اليوم يتحرك لملاحقة كل الجماعات المسلحة التي يراها موالية لمنافسه وغريمه فتحي باشاغا، أو مشككة في شرعية حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي والتي تحولت إلى حكومة للانقسام الوطني مؤهلة للدفع بالبلاد إلى حرب لا تبقي ولا تذر.
◙ كثيرا ما يشدد الدبيبة على أنه ضد الحرب، ولكنه لا يرى مانعا في استعمالها أداة للحفاظ على امتيازاته كرئيس حكومة وامتيازات من يحيطون به
يرفض المهندس الدبيبة الاستماع إلى صوت العقل، ولا يرى موجبا للتداول السلمي على السلطة، ولديه الكثيرون ممن يزيّنون له الاستمرار في عناده، ويحبّرون له تلك الخطب الشعبوية التي عادة ما يقضي وقتا طويلا لتلاوتها أمام الكاميرا تاركا لمهندسي التركيب صعوبة توليفها بالشكل الذي تخرج به إلى الناس. لقد تحول مكتب رئاسة الوزراء بطريق السكة إلى متاع شخصي له ولمن يقفون وراءه، وتحولت ليبيا بمقدراتها ومصيرها إلى رهينة بين يدي عدد ضئيل من الأفراد المحسوبين على مصالح وحسابات في سياق أسري فئوي معلوم بالضرورة لدى الأغلبية الساحقة من الليبيين، وربما إلى غنيمة حرب تتجدد فصولها بين الحين والآخر، وكان آخر محطاتها السبت الماضي متسبّبا في سقوط العشرات بين قتلى ومصابين فقط لتوفير فرصة للسيد الدبيبة يشعر من خلالها بأنه تفرّد، ولو إلى حين، بالحكم الذي بلغه بآليات مشبوهة ويستمر فيه بأساليب لا يعتمدها إلا الحكام المستبدون والأنظمة الدكتاتورية.
جاءت معركة السبت في سياق عام لا يمكن إغفال الكثير من المؤشرات المرتبطة به ومن أبرزها حصول الدبيبة على دعم أممي – أميركي – بريطاني يزيد من تبيان مستويات فشل المجتمع الدولي في قراءة خصوصيات الواقع الليبي، وعلى مساندة إخوانية تكفيرية تأكدت بإصدار مفتي الإرهاب الصادق الغرياني فتوى يكفّر من خلالها كل من يؤيد حكومة فتحي باشاغا، والزيارتان المتتاليتان لنائب رئيس المخابرات التركية إلى طرابلس حيث كانت له اجتماعات سرية مع صانعي القرار في دوائر الحكومة المنتهية شرعيتها، كما كان له تصريحه الشهير بأن بلاده ستتصدى لأيّ طرف سيعمل على مهاجمة طرابلس، وهو ما نفّذته على أرض الواقع، فالطائرات دون طيار التي تم إطلاقها من قاعدة معيتيقة لضرب قوات يقال إنها مساندة لحكومة باشاغا في غرب العاصمة ولتحذير القوات القادمة من مصراتة من استمرارها في السير نحو العاصمة، كانت من نوع بيرقدار التركية، وتدار من قبل خبراء على علاقة بالوجود العسكري التركي الذي تحول إلى جزء من معادلة السلطة والنفوذ في الداخل الليبي.

◙ الجيش الوطني أفلح في فرض سيادة الدولة في مناطق نفوذه بشرق البلاد وجنوبها ووسطها
لقد كشفت اشتباكات طرابلس من جديد عن عمق الأزمة الأمنية في مناطق الغرب الليبي في ظل استمرار سيطرة الميليشيات المسلحة على الموقفين السياسي والميداني، وفي غياب رؤية جدية لحل الجماعات المسلحة وجمع السلاح المنفلت وفق ما نصت عليه قرارات مجلس الأمن ومخرجات المؤتمرات الدولية ذات الصلة وأبرزها مؤتمرا برلين الأول والثاني.
وإذا كان الجيش الوطني قد أفلح في فرض سيادة الدولة في مناطق نفوذه بشرق البلاد وجنوبها ووسطها، حيث لم يعد هناك وجود للميليشيات الخارجة عن القانون ولا للجماعات الإرهابية، فإن مدن الساحل والجبل الغربيين، وبخاصة العاصمة طرابلس، تواجه نفوذا واسعا للميليشيات سواء منها ذات المرجعيات الأيديولوجية والجهوية والقبلية أو المرتبطة بمصالح الأفراد من أمراء الحرب المتمسكين بتلابيب السلطة للحفاظ على امتيازاتهم المادية والاجتماعية، إلى جانب الحصانة التي يتميّزون بها في مواجهة القضاء بما يساعدهم على تكريس ثقافة الإفلات من العقاب، وقد أكدت الأحداث الأخيرة أن الأزمة السياسية في ليبيا لا تزال تتفاقم يوما بعد يوم، وأن من أسباب تفاقمها استمرار الوضع الأمني على حاله، ولاسيما في ظل فشل المجتمع الدولي في الضغط من أجل حل قضية الميليشيات التي نجحت في السيطرة على الأرض كما على مؤسسات الدولة السيادية، وفي فرض خياراتها على منظومة الحكم ومراكز القرار السياسي.
لم يعد خافيا أن الدبيبة مستعد للعب ورقة الميليشيات بشكل سافر، وهو اليوم يستعملها من خلال سياسية “فرّق تسد” حيث يعمل على تقسيمها وفق ولاءاتها بما يديم حالة الاحتقان بين أمراء الحرب وحاملي السلاح، وبما يزيد من ضبابية المشهد العام حيث لا استقرار يمكن التعويل عليه في الإعداد لانتخابات ذات مصداقية ونزاهة، ولا توحيد للمؤسسة العسكرية بما يتيح فرصة الانتقال إلى تطبيق مشروع المصالحة الوطنية على الأرض، ولا تداول سلميا على السلطة بما يساهم في فتح آفاق جديدة أمام الدولة والمجتمع.
ويعتمد الدبيبة في مشروعه على أمراء الحرب ممن تم تعيينهم في مناصب سيادية من قبل رئيس المجلس الرئاسي السابق فائز السراج، ولم يستطع المجلس الرئاسي الحالي إزاحتهم من مواقعهم، كما لم تدر في خلد النائب العام فكرة ملاحقتهم بالجرائم التي سبق وأن تورّطوا فيها ولا يزالون يرتكبونها غير مبالين بأرواح الأبرياء، وهم اليوم جزء من دائرة تقاسم الغنيمة مع الفاسدين الكبار ممن لا يرون في ليبيا سوى فرصة للنهب الممنهج بالتنسيق المباشر مع حماتهم الخارجيين.
◙ المهندس الدبيبة يرفض الاستماع إلى صوت العقل، ولا يرى موجبا للتداول السلمي على السلطة، ولديه الكثيرون ممن يزيّنون له الاستمرار في عناده
وإذا ظهر من أمراء الحرب من يرفض إبداء عبارات الولاء لشخصه وحكومته، فإن الدبيبة يفتح عليه أبواب العقاب بالتحريض عليه من وراء حجاب، ويكلف من يراه مناسبا بخوض معركة بالوكالة عنه لتأديب المشككين في شرعيته والمناهضين لسلطته، وهو ما حدث في العديد من المناسبات وكان آخرها ما حصل السبت الماضي الذي شهد سقوط العشرات من القتلى والجرحى.
ينطبق على الكثير من الساسة الليبيين المثل القائل “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”، ولعل مشاهد تقديم التعازي لعدد من ضحايا السبت الأسود من قبل متورطين في النفخ في كور الحرب، وعلى رأسهم الدبيبة، تكشف عن طبيعة الصراع القائم منذ الإطاحة بنظام القذافي في 2011، وهو صراع لا يستثني أيّ أداة في إشعال المواجهة طالما أن الهدف هو الثروة الطائلة التي يتم توزيعها على الحيتان الكبيرة والقطط السمان بينما يعاني الشعب الكريم من الفقر والفاقة والعوز وانهيار منظومة الخدمات ومن سياط الميليشيات التي تتولى حماية اللصوص من السياسيين والفاسدين من المسؤولين مقابل نصيبها ليس فقط من إيرادات النفط والغاز، ولكن كذلك من ريع الدولة كغنيمة يجري تقاسمها بين أعدائها الفعليين ممن يرفعون في العلن شعارات الوطنية ويمارسون من وراء الستار أساليب الابتزاز والانتهازية ونهب الثروات الوطنية تحت غطاء الشرعية الدولية.
كثيرا ما يشدد الدبيبة على أنه ضد الحرب، ولكنه لا يرى مانعا في استعمالها أداة للحفاظ على امتيازاته كرئيس حكومة وامتيازات من يحيطون به كأقارب وأصهار وأنصار وموالين لرئيس الحكومة، وكجوقة هاتفين بحياته ليستمر في الحكم إلى ما لا نهاية سواء دون انتخابات أو بانتخابات يخوضها وينتصر فيها بما يمتلك من مقدرات الدولة وأصوات المتأثرين بخطابه الخداع وقراراته الشعبوية.