الدبلوماسية أسلوب حياة قبل أن تكون علما

الشخصية الدبلوماسية تقاس بقدرتها على النفوذ إلى أعماق الآخرين والتأثير فيهم والنجاح في إقناعهم، عن طريق إشراكهم في الحوار وإشعارهم بالارتياح، ليتحسسوا حجم المسؤولية.
الجمعة 2019/04/05
فن الممكن

لم أتساءل يوما عما إن كنت أتمتع بمقومات الشخصية الدبلوماسية أم لا؟ ولكن أساتذتي بالمعهد الثانوي لطالما لقبوني بـ”الدبلوماسية الصغيرة”، ولم أكن وقتها أدرك ما معنى الدبلوماسية، إلا أنني لجأت إلى القاموس لشرحها فوجدت أنها تعني اللباقة والبراعة في التعامل مع الآخرين.

وعندما كبرت أصبحت أكثر فهما لهذه الكلمة التي ترتبط في الغالب بالطريقة التي يتعاطى السياسيون وحتى الأشخاص العاديون بها مع الآخرين باعتبارها فن الممكن، وخاصة أثناء الخلافات والأزمات التي قد تطرأ ويفترض التعامل معها بأسلوب خال من التشجنج من أجل إيجاد حل وسط يرضي الجميع، وذلك عن طريق التحاور البناء والبعيد كل البعد عن التطاحن والقوة والبغضاء، بهدف إشاعة السلام والتسامح.

ولعلي بالفعل أحمل جزءا من صفات الشخصية الدبلوماسية، فلطالما تسامحت وتعاملت بدماثة خلق مع السلوكيات العدائية والسلبية لبعض زملاء الدراسة والعمل وتغاضيت عن الكثير من الأخطاء حتى تظل علاقاتنا قائمة، ويبدو أنني اكتسبت هذه الصفات من أمي التي تعاملت دائما بلطف مع الجيران الذين كانوا يطرقون باب منزلنا وهم يستشيطون غضبا من الخصومات التي كانت تنشب بين أخي الكبير وأبنائهم في طفولتهم، فلأمي قدرة كبيرة على ضبط النفس وامتصاص الغضب بكلماتها المتسامحة وأسلوبها السلس في حل المشاكل البسيطة والمعقدة. لكن من حسن حظي أنني تخصصت في دراسة الصحافة وليس الدبلوماسية، وإلا لما كنت كتبت هذا المقال الذي بين أيديكم اليوم.

الشخصية الدبلوماسية تقاس بقدرتها على النفوذ إلى أعماق الآخرين والتأثير فيهم والنجاح في إقناعهم، عن طريق إشراكهم في الحوار وإشعارهم بالارتياح، ليتحسسوا حجم المسؤولية، ومن ثم تمرير الرسالة المقصودة بأسلوب سهل وبسيط حتى يتمكنوا من فهمها ويقتنعوا بها.

وقد عرف الدبلوماسي البريطاني الراحل وليام سترانغ، الدبلوماسية بقولة “إنّها مسؤولية كل فرد عندما تصبح الحرب مأساة الجميع دون استثناء”.

ولكن السؤال الذي يحيرني اليوم وأنا أرى الإقبال الكبير على الدورات والمعاهد العالمية العريقة التي تعلم الدبلوماسية، لماذا تمنى معظم اتفاقيات السلام اليوم بالفشل، وهل من الممكن فعلا أن تُكتسب الدبلوماسية بالتعلم؟

حينما أرى الاضطرابات والنزاعات المسلحة والأثمان الباهظة التي تدفع اليوم في معظم البلدان العربية، أصبح مقتنعة تماما بأن تعلم الدبلوماسية عند الكبر أمر عسير للغاية، لأنها أسلوب حياة، قبل أن تكون علما يدرس في الجامعات، وإذا لم نكتسب صفاتها في الصغر عندما تكون عقولنا مرنة ومشاعرنا في طور التشكل، يصعب اكتسابها في اللحظة التي اتخذت فيها شخصيتنا الشكل الذي صارت عليه في مرحلة النضج.

وإذا كان الشاعر الإنكليزي الشهير ويليام ويردسويرث قد كتب في يوم ما “الطفل سيصبح والد الرجل”، ويعني بذلك أن شخصية الرجل تتكون في مرحلة الطفولة، فإن علماء النفس يؤكدون أن الطفولة المبكرة هي فترة نمو الدماغ وتكّون السلوك، وبالتالي لا بد من استغلالها بالشكل الأمثل، واستثمار الوقت والجهد في تطوير وتحسين مهارات الطفل المتعلقة بكيفية التحكم العقلاني والتفكير المنطقي، من خلال ما يتعلمه من الأسرة والمدرسة من دروس وعبر ستتيح له فهم طبيعة الحياة عند الكبر، وهذه أفضل الطرق لتعلم الدبلوماسية.

21