الخيال والتخييل في النص الأدبي لا يلغيان المصداقية

الروائي العراقي زهير كريم يرى أن الرواية هي الشكل الأدبي الأقرب إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية، فهي نص مواز للتاريخ، غير خاضع لرؤية أيديولوجية.
الثلاثاء 2018/10/23
أكتب الشعر بالموازاة مع السرد

يطغى الحديث عن الحرب في الرواية العراقية بشكل كبير باختلاف الثيمات والشخصيات والرواة، لا سيما بعد العام 2003؛ إذ احتلت المتغيرات في الواقع العراقي وما تبعها من تصدعات اجتماعية وسياسية موقع الصدارة في ثيمات الكثير من الأعمال العراقية. “العرب” حاورت الروائي العراقي زهير كريم حول مجموعته القصصية الجديدة متطرقين للحديث عن مسألة حضور “الحرب” في مجمل أعماله.

“فرقة العازفين الحزانى” عنوان المجموعة القصصية الصادرة حديثًا عن “دار الرافدين” للروائي العراقي زهير كريم وعنها يقول: “النصوص في هذه المجموعة مثل النقاط التي تتقارب أو تتباعد أحيانا على هذا المسار، إنها المعزوفة نفسها، نصوص عن الحزن والحرب والمصائر المطحونة. في بعض النصوص، تقنية البناء عمودية، وفكرة الجو العام حاضرة على أساس أن الوقائع كلها منسوجة بالخيط ذاته، بالطبع تتغير ألوان الخيط من واقعة إلى أخرى، لكن النسيج في النهاية واحد، يتعلق الأمر فقط بمسار التاريخ أو فكرة الزمن”.

وفي ما بتعلق بالعنوان، يوضح كريم أنه يسعى لاستدعاء العناوين الفرعية كلها إلى منطقة واحدة، القصص عن العراق، عن بغداد، منذ إنشاء المدينة حتى الآن، الشخصيات تبدو مثل فرقة من العازفين، لكننا نسمع على الدوام ذلك اللحن المؤلم المليء بالشجن، في الحقيقة هؤلاء هم أهل بغداد. عندما نتحدث عن التاريخ السياسي والاجتماعي للمدينة، سوف نجد الكثير من هؤلاء الحزانى، إنهم فرقة السكان الذين نجد شبيها لهم في كل مكان وكل زمان، يتحركون داخل نصوص عن الألم الإنساني، الحرب، والسجون والعبودية.

هاجس الكتابة

في روايته الأولى “قلب اللقلق” يستحضر كريم زمنًا تاريخيا يبدأ منذ دخول القوات البريطانية للعراق، وفي “صائد الجثث” حديث عن المنافي والحرب العراقية الإيرانية ومآلات الإرهاب في العراق حتى مجموعاته القصصية لا تخلو من أحاديث الحرب والوطن.. يُبين الكاتب العراقي أن الحرب العراقية الإيرانية هي الأكثر تأثيرا في الكتابة لديه، إذ كان جنديًا على السواتر، ومن ثم فالحرب لا تغادر أبدا، إنها تترك ندوبًا عميقة في الداخل، حتى في مجموعته القصصية الأولى الصادرة عن دار المتوسط “ماكينة كبيرة تدهس المارة” ورغم أن الشخصيات كلها بلجيكية وبعيدة عن أجواء العراق، لكن الحرب حاضرة في معظم نصوصها.

نصوص عن الحزن والحرب والمصائر المطحونة
نصوص عن الحزن والحرب والمصائر المطحونة

في ما يتعلق بعمله الروائي الأول “قلب اللقلق” يقول كريم “كانت مغامرة بالفعل، فقبلها لم أكن قد جربت الدخول إلى هذه الغابة الغامضة، المغريّة في الوقت نفسه، هي رواية علمتني الكثير. وكانت بالنسبة إلي مثل طاولة تشريح، ظهرت فيها أخطائي، لكنها أيضاً جعلتني شغوفا بالسرد. هي أحبّ الأعمال إليّ، الشخصية في قلب اللقلق، هي أنا، أصدقائي، مع خليط من الناس الذين أحبهم، وفي النهاية هي رواية حرب من زاوية أخرى، لنقل إنها صرخة ضد المهزلة”.

ويتابع “أما رواية ‘صائد الجثث’ فهي عمل سردي عن الخوف والعبث والموت والقسوة، كتب تحت تأثير الصدمة. كنت قد غبت عن العراق لخمسة عشر عامًا، حين عدت كان ذلك في نهاية 2006. في طريق المطار سمعت لأول مرة أن هذا الطريق، يسمونه طريق الموت. من هنا بدأت الأحداث، قضيت شهرين في بغداد، وكانت آثار الحرب الطائفية قد تركت خلفها الكثير من حكايات الرعب والقسوة. كل يوم كنت أسمع المزيد من هذه الحكايات التي يبدو معظمها غير واقعيّ، لهذا لم أخرج من المنزل إلا نادرا، كنت خائفاً فعلا”.

يلفت كريم إلى أن اختيار العنوان، خاصة في المجموعة القصصية، صعب ومحيّر. إذ يتوجب إيجاد الخيط الخفيّ الذي يربط مجموعة من الأفكار الموزعة في النصوص، ربما يكون الأمر أكثر سهولة في الرواية أو في المسرح، لكن الكتاب الذي يتضمن نصوصا مستقلة في البناء والشخصيات والمكان يحتاج إلى جهد أكبر، ومن ثم فهو يبذل جهدًا للوصول إلى أكثر العناوين الملائمة للمضمون لكنه ممتن للصدفة التي أهدته معظمها.

ويلفت كريم إلى أنه تمنى أحيانًا الفوز بجائزة أدبية للحصول على بعض المال، وربما أسعده رأي قارئ في ما يكتب، لكن في النهاية لم يكن أيّ من هذه الأشياء دافعًا حقيقيًا للكتابة. فالدافع الرئيسي بالنسبة إليه هو أنه لا يتخيل حياته بدون الكتابة، وعندما يفكر بهذه الحياة التي تخلو من فعل الكتابة يشعر بشيء يشبه الضياع أو الغربة، ربما كانت الكتابة هي المنطقة الحميمية التي يشعر بوجوده الحقيقي فيها.

الرواية والشعر

يقول كريم “يبدو الحديث عن المصداقية في العمل الأدبي غامضا. بالنسبة إلي أعتقد أن الخيال والتخييل في النص الأدبي لا يلغيان المصداقية، حتى تلك الأعمال التي تعتمد على الفانتازيا، منها ما هو مؤثر جدًا، أعتقد أن القضية تتعلق بمدى التأثير الذي يحدثه النص في وجدان وعقل القارئ. لا أعتقد أن أيّ نص، سردي أو شعري، في كل زمان ومكان، يخلو من حضور الكاتب حتى ولو بشكل ضئيل، الكاتب موجود دائما، لكني أتفق مع الرأي الذي يتعلق بطغيان الذاتية على نسيج النص، فيتحول حينها إلى عملية استثمار الكاتب لحياته بشكل سيء ويفقد العمل الأدبي في النهاية تلك الطبيعة التي تجعله منتجاً إبداعياً يعتمد في الأصل على الخيال والتخيل”.

ويُبين كريم أنه لا توجد شخصية خيالية بشكل كامل، حتى الشخصيات في روايات الفانتازيا، الأعمال التي ظهرت في وقت ما عن الفضاء، الأعمال التي استخدمت فيها آلات ومنتجات كانت في وقتها خيالية، لكنها بعد سنوات قليلة ظهرت كمنتج واقعي نستخدمه جميعا، من ثم فهو يستدعي شخصياته من الواقع، من تجاربه الشخصية أو تجارب الآخرين، لكن الخيال يتدخل لرسم ملامح الأشخاص فيتحولون أثناء المعالجة إلى شخصيات، إنه شيء يشبه عملية الكولاج، وفي النهاية هذه هي الشخصية في النص الأدبي.

أيّ نص، سواء كان سرديا أو شعريا لا يمكنه، في كل زمان ومكان، أن يخلو من حضور شخص الكاتب ولو بشكل ضئيل

كتب كريم الشِعر قبل أن يكتب عمله السردي الأول “قلب اللقلق” الذي تبعه بأعمال روائية وقصصية أخرى، وعن هذا يقول “لم أتوقف عن كتابة الشعر، فمازلت أكتبه بالموازاة مع السرد، لكن في روايتي الأولى ‘قلب اللقلق’ كان الشعر عائقًا ومُضرا، فلم أستطع وأنا أدخل حقلاً آخر أن أتخلص من جملتي الشعرية تماما، لكن في روايتي الثانية، ظهرت أهمية أن أكون شاعرًا، فلقد وجدت مع مرور السنوات أن الشعرية هي القوة التي تجعل الروايات والقصص مؤثرة، وقد أكون متطرفا، حين أقول إن الشعراء هم أفضل من يكتبون السرد في تجاربه الجديدة”.

يرى كريم أن الرواية هي الشكل الأدبي الأقرب إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية، فهي نص مواز للتاريخ، غير خاضع لرؤية أيديولوجية، يفكك ويبني، نص قلق ولا يستسلم للمطلقات، يتعامل مع الوقائع، خارج تصورات السلطة، والقسرية التي تمارسها في التدوين، وهنا تكمن أهميتها، في تقديمها للعالم بعين أخرى.

ويشير الروائي العراقي إلى أن الرواية العراقية قدمت خلال العشرين سنة الأخيرة الكثير من النماذج المتميزة، فهناك كم هائل من الأعمال لكتاب في الخارج والداخل، منها ما ترجم إلى لغات عديدة، ومنها ما حصل وباستحقاق على جوائز مهمة، وما كان محل احتفاء. لكن هذا لا يعني أن الرواية العراقية استكملت ملامحها، فهي تحتاج إلى وقت كي تتخلص من بعض المشاكل المتعلقة بالبناء واللغة والثيمة.

15