الخيال السياسي السني يخلق الخليفة الجنرال أشرف ريفي

السبت 2016/06/04

ركّب الخيال السني اللبناني الجريح لفوز أشرف ريفي في انتخابات طرابلس البلدية أجنحة قادرة على عبور التاريخ والعودة منه بصورة الخليفة العسكري القائد.

شُبه ريفي بأردوغان صاحب نزعة إعادة الخلافة، دون أن ينتبه الكثيرون إلى أن هناك خليفة أسود الملامح لا يزال جاثما في هذه الصورة وهو أبو بكر البغدادي، وأنه حتى هذه اللحظة صاحب فكرة الخلافة ومنتج تمثلاتها في الوعي العام العالمي. تاليا فإن استعادة صورة الخليفة لا يمكن أن تعني الآن سوى إعادة إنتاج مشهدية البغدادي، انطلاقا من طرابلس التي يتهمها حزب الله، ومن معه، بأنها وكر للتشدد والإرهاب.

قيل الكثير في تحليل فوز أشرف ريفي، وحاولت جل القراءات تفسيره وتحليله انطلاقا من السياسة التي باتت عاجزة عن تفسير الحال اللبناني، الذي تعكس معظم القوى المتصارعة فيه ميولا لا تتجاوز السياسة وحسب، بل لا يمكن للسياسة الحلول فيها بوصفها مرجعية أو بنية تأسيسية. لم تغب السياسة وحسب بل ماتت، وحل مكانها سياق ترميزي شديد التماسك، يحيل في كل شبكة دلالاته إلى معاني تتصل جميعها بنزعات إحيائية ذات طابع مغرق في الطائفية، وهذا الطابع يتجاوز قدرة أي من التيارات أو الشخصيات الموجودة في البلد على إدارته والتحكم فيه.

هكذا لم تكن الانتخابات البلدية في بعدها الرمزي صراعا سياسيا، إنما كانت استعادة للحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية، ولم يكن أبطالها قابلين للانتماء إلى هذه اللحظة إطلاقا، بل كانوا رغما عنهم مجرد أطياف عبروا من التاريخ، ليحلوا في هذه اللحظة الفاقدة للشرعية والتي لا معنى لوجودها أساسا. المهمة المناطة بكل أبطال هذا الصراع هي تدمير علاقات أبناء هذا البلد بالسياسة بشكل نهائي وتام، وتأمين شروط عودتهم الروحية والسلوكية والنفسية والأخلاقية، إلى زمان الأصل والأصول، حيث كان كل شيء يحيا ذاته في سعادة وهناء.

أشرف ريفي انطلاقا من هذه المعايير ليس في نظر هذا الخيال السني سوى ظل للخليفة، بمعنى أنه ليس موجودا عمليا بنفسه، وغير ممكن الوجود انطلاقا من سياق فعلي وحقيقي يرتبط بواقع الصراع الملتهب في المنطقة، وبالتحولات الإقليمية والدولية، أو بالإشكالات والتعقيدات التي طالت ممارسات الأطراف الأخرى في المدينة، والتي شكلت عامل جذب ساهم في فوزه، إضافة إلى سقطات وعثرات تيار المستقبل.

المرعب في البنية الرمزية التي اتخذها هذا الفوز أنه يتماثل مع خطاب النصر الإلهي الذي طالما رفعه نصر الله في وجه الجميع في محاولة لتبرير ما لا يبرر، وتفسير ما لا يفسر، وصناعة حجاب سميك يحول بين الناظر وبين رؤية الجثث المدفونة وراء الغمامة السوداء لمثل هذا النصر المشؤوم.

نسب صورة الخليفة إلى ريفي يجعل النصر إلهيا وليس انتصار الطرابلسيين. ما يقوله الوعي السني المأزوم في هذا الصدد هو عين ما يقوله الوعي الشيعي في هذه اللحظة، حيث يُخشى أن تتحول نزعة التغيير التي عبر عنها الشارع الطرابلسي، إلى منطق يرى في ريفي الخليفة الرمزي الذي يشكل الموازي السني في هذه اللحظة للولي الفقيه.

حرص ريفي على أن يرتبط بالأرض بمعنى البقاء في السياسة وحدودها، ورفض الغرور، وأعلن أكثر من مرة قائلا “أنا اللواء أشرف ريفي وإجريي بعدن عالأرض”. حاول تركيب خطاب منفتح على الحريري مع البقاء على رفضه القاطع للتفاهمات مع حزب الله. محاولات ريفي هذه هل تستطيع الصمود أمام ثقل الهالة الرمزية التي أنيطت به، والتي تجعله أكثر من مجرد زعيم سني لبناني، بل وتفترض قدرته على تمثيل أدوار رمزية أكبر بكثير من حدود لبنان؟

هذه اللعبة كانت اللعبة التي حرص رفيق الحريري طوال حياته على تجنبها حين كان يردد “ما حدا أكبر من بلدو”، وحين صار حجم الرئيس الشهيد فعلا أكبر من بلده بقوة الوقائع التي نجح في صناعتها، تمت إعادته إلى حدود البلاد الضيقة بالاغتيال. من هنا قد تكون المهمة الشاقة التي يجب على أشرف ريفي العمل عليها هي تفجير هذه البنى الرمزية التي أنيطت به، والعمل على إعادة بناء صورة له تضع هذا الفوز في الإطار السياسي البحت، والإنمائي البحت، لأن هذه البنى الرمزية الواسعة المناطة به هي اغتيال مسبق له، ولدوره المنشود الذي لا يستطيع أن يحيا إلا داخل منطق الاعتدال.

لا يعني الاعتدال الاستسلام لحزب الله، إنما يعني الحرص على أن يكون منطق المواجهة معه متناقضا مع أخلاقياته وسلوكاته، وبشكل خاص مع البنى الرمزية التي تنتج تقابلا صراعيا بين الخليفة السني والولي الفقيه الشيعي. الانتصار على حزب الله ممكن حين تنزع عن طرابلس صفة المدينة الأكثر فقرا، وحين تنزع عنها صفة قلعة المسلمين وكل سمات القلعة وأوصافها، لأن القلاع ملجأ المعزولين. ريفي الخليفة مهزوم سلفا أمام حزب الله، لأن حزب الله متمرس أ في هذه اللعبة. ريفي الكائن الأرضي والعادي ورجل الإنماء هو من سيكون صاحب الانتصارات الأكيدة على حزب الله، وهي انتصارات مستقلة تماما عن منطق الانتصارات الإلهية، وتجد بعدها الدلالي والرمزي في صور الأطفال الذاهبين صباحا إلى المدارس، والمقاتلين المتعبين العائدين من جبهات القتال، والذين يعملون في دفن جثث الحروب، وطمس معالمها تماما للتأكد من أنها غير قادرة على العودة بأي شكل من الأشكال.

كاتب لبناني

9