الخلق في وسط لندن
في وسط لندن، يتاح للزائر أن يتخذ مجلسه في المساحة الخارجية المتاحة، لأي مقهى على الرصيف. عندئذ تذهب به سيول العابرين، إلى سياحة ذهنية من التأمل والمقارنات، إذ يتبدى لافتا الحضور المكثف للعنصر الإسلامي الوافد من آسيا وأفريقيا والوطن العربي. ولعل المرأة المتحجبة، هي العلامة الفارقة، الدالة على هوية المارين المسلمين، لأن غيرها من النساء يمكن أن تكون لاتينية أو محض أفريقية.
بعد سنوات عدت إلى مقهى “كوستا” في “إيلنغ برودوي” وكانت الجلسة الخارجية متاحة، كالمعتاد في أحوال الطقس المعتدل. يمر الخلق بكثافة، لكن الجديد من بين استخلاصات التأمل، هو كثافة المسلمين الظاهرة من خلال علامتين فارقتين: حجاب المرأة من أي لون كانت، ولافتات محال المطاعم والمواد الغذائية والمقاهي.
تكاد أعداد العابرات المتحجبات في شوارع لندن تضاهي أعداد سافرات الرأس، ما يشي -ابتداء- بثقل سكاني كبير للمسلمين المقيمين. فلسنا الآن في فترة الصيف ولا حضور ملموسا للسائحين من الأقطار العربية الميسورة.
ولعل ما يبعث على الحسرة هو تأثير الحروب والكوارث في بلدان العرب والمسلمين، على ألوان العابرين ولافتات المحال باللغة العربية واللغات ذات الحروف الشبيهة.
وهناك نسبة معتبرة للفئة العمرية الصغيرة، والأطفال الذين يحملون حقائبهم المدرسية على ظهورهم ذاهبين وجائين، يرتدون الزي المدرسي اللندني أو البريطاني ويتضاحكون.
عندما يتأمل المرء سمات الراحة والقناعة على وجه الفتى الصومالي وشقيقته الصغيرة، يشتعل في أعماقه السؤال: هل كان ولا يزال شرط استقرار الإنسان وسعادته، أن يصل إلى بلاد الإنكليز وغيرها؟ وما الذي ستصبح عليه أوضاع المسلمين هنا، وما هو مصيرهم، إن كبرت جرثومة داعش وأصبحت ديناصورا؟
لا يملك واحدنا إلا أن يعترف بفضائل الدولة البريطانية على اللاجئين إليها. ففي السنوات الأخيرة التي شهدت حروبا واضطرابات في بلدان العالم، أصبح اللاجئون يشكلون سبعين بالمئة من الزيادة السكانية السنوية، وقد مُنحت هذه النسبة، الجنسية البريطانية، بينما الفلسطيني العم والمعلم أبورياض نجيب، سافر إلى السعودية في العام 1959 ولا زال يجدد تصريح إقامته فيها، إذ لا مستقر آخر له، ولم يكن أطرف منه ولا أعذب، وهو يعيش حياته راضيا خفيض الصوت داعيا لولاة الأمر بطول العمر ولا يلفظ حرفا يزعجهم.
قدرة بريطانيا على استيعاب الناس تضاهي قدرتنا على احتمال أذاها والصبر عليه مع الاكتفاء بمحض الاعتذار، بل تضاهي قدرة ولاة أمور كثر على “تطفيش” خلق الله من أوطانها.