الحُطيئة

يتفشى الهجاء والمديح على خطوط السجالات المتعاكسة. فالرشق بالكلام صنعة قديمة في الحياة العربية. لكن الذين امتهنوا الهجاء، ممن سجل تاريخ الشعر أسماءهم، كانوا يتحلوْن بالشجاعة، ويمارسونه في أرضهم وفي قلب الحدث. أما الذين امتهنوه من بعيد، فقد كانوا عابرين. وفي زمن الجرائد الورقية، ذهب المداحون والهجّاؤون، ولم يعد يذكرهم أحدٌ من الناس، فانطوت أسماؤهم مع طيّ جرائدهم. فلم يحفظ التاريخ سوى سِيرِ الشجعان الصناديد. فالحُطيئة الذميم السليط، كان واحدا من الشعراء الهجّائين، أبلى بلاء قبيحا في صدر الإسلام، دون أن يرفّ له جفن. اشتكى منه أحد الولاة، لدى عمر بن الخطاب، عندما سبّ امرأته وأهله، وشهد الناس ضد المُشتكى منه، قائلين إنه يمدح الناس ويذمهم بما ليس فيهم، فقال عمر “ما أراني إلا قاطعا لسانه لإراحة المسلمين منه”. ولما هَمَّ بأن يفعل ذلك، تدخل عبدالرحمن بن عوف، محذرا من أن يصبح قطع لسان الشاعر سُنة متداولة، إن فعل الخليفة ذلك، فكفّ عمر يده عنه. قبلها، كان الحُطيئة وهو حبيس البئر، قد جاهر شعرا بتنصله من الدين. وفي لحظة النجاة، قال له الخليفة “إياك وهجاء الناس”. أجابه الشاعر “إذن يموت عيالي جوعا، فهذا مكسبي ومنه معاشي”. عاد عمر وقال له “إياك المُقذع من القول”. ردّ الحُطيئة بسؤال “وما المُقذع؟”، قال له أمير المؤمنين “أن تخاير بين الناس فتقول فلانٌ خير من فلان، وآل فلان خيرٌ من آل فلان”. عندئذٍ استرجع الشاعر كامل وقاحته وقال لعمر “أنت والله أهجى مني”!
في أيامه الأخيرة، وقد أوشك على الموت؛ نودي باسم ابنته، لكي يوصي قبل الرحيل. لم يجب. خرج عن الموضوع وطفق يعدد مراتب شعراء القبائل مرددا الأبيات التي جعلتهم شعراء مجيدين في نظره. عادوا فقالوا له “أوصِ يا أبا ملكية بما ينفع أهلك”. قال “أوصيهم بالإلحاح في السؤال، فإنها تجارة لا تبور، وهم على أيّ حال، لا يجيدون لغة سوى الاستجداء، ولا فعلا سوى التوسل”!
سألوه عن ماله وكيف تكون قسمته، فأجاب قائلا “للأنثى مثل حظ الذكر”. قيل له “ليس هكذا قضى الله جل وعز للأنثى”. قال “لكني هكذا قضيت. فلتأخذ المرأة نصيبها، قبل أن يلتهم حصتها ذئاب الرجال”!
وعندما سألوه إن كان يريد شيئا يعهد به لغيره، قال جازما “تحملونني على أتان (أنثى حمار) وتتركوني أركبها حتى أموت. فإن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريمٌ قط”!
بتلك المشاكسة حتى الرمق الأخير، قضى الشاعر في زمن كان الشعر فيه، الوسيلة الإعلامية النافذة ولا شيء سواها.