الحياة سينما

تبحث عن القاهرة التي تقع في المخيلة فتجدها في الصور التي تمر مسرعة والأصوات التي لا يمكن أن تبين ما تقول.
كل ما تلتقطه العين يبدو مثل صفر يتلاشى قياسا بالصور التي تعبر في احتفال إيمائي ملون وكل ما يستقر في الأذن من عبارات أنيقة وناعمة يتضاءل بالمقارنة مع معجم لغوي يفتتح المصريون به يومهم وهم في حالة تفاؤل.
ما من شعب يعيش الحياة كما لو أنه يخرج من بيته لأداء دور في فيلم سينمائي مثلما يفعل الشعب المصري. قد لا يكون ذلك حقيقيا.
لكن من تعلق بالسينما المصرية باعتبارها مرجعا ثقافيا لا بد أن تختلط عليه الأمور فيرى الواقع متخيلا ويمسك بأجنحة الخيال وهي تنفض الغبار عن كائنات الواقع.
في الأحياء الشعبية رأيت وجوها لا تظهر إلا في السينما. شعرت حينها أن محمود المليجي وتوفيق الدقن وعادل أدهم وفريد شوقي وسواهم من أبناء الأحياء الشعبية في الأفلام لم يخترعوا شيئا بل سعوا بنسب مختلفة لتقليد ما رأوه.
الحياة الشعبية هنا سينما. أخطأ سائق التاكسي فخرج من الطريق السريعة وانزلق بنا إلى أحد الأحياء الشعبية ولم يستطع بعدها أن يتدارك خطأه.
كان عليه أن يمضي قدما بنا إلى أن يعثر على مخرج. حينها انفتحت أمامنا متاهة كان السائق نفسه يشعر بالحرج خشية أن لا يهتدي إلى مخرج لها وكان يعتذر من غير أن يُظهر يأسه.
كان يشجعنا على المقاومة. النهاية قريبة. في قمة يأسه يبدو المصري متفائلا. إنه كائن إيجابي.
كانت التاكسي تسير ببطء فيما كانت الحياة تمر مسرعة. في أزمنة الفاطميين والمماليك ومحمد علي ونابليون وجمال عبدالناصر لم تكن تلك الأحياء موجودة.
كان المصريون يومها هم غير مصريي اليوم. حين لمحتني امرأة تشبه تحية كاريويكا في نهاياتها وأنا ألتقط صورا للأزقة قالت لي “صوّر. فقد لا تكون هذه الأزقة موجودة غدا”، كما لو أنها كانت تفكر في السينما. سيُزال الديكور بعد تصوير الفيلم. لقد صنعت السينما المصرية عالما مجاورا، غير أن ذلك العالم لم يكن زائفا. أعظم ما فعلته السينما المصرية أنها حررت الشعب من كآبة محتملة وفتحت الأبواب أمامه ليضحك. بصراحة لم أر مصريا متجهّم الوجه أو يحدثك باستياء كما لو أنه لا يطيق وقوفك أمامه.
المصريون كائنات مرحة. ليس مهما ما يقولونه. المهم هو الأسلوب. في تلك الأحياء التي زرتها من غير قصد وهبني المصريون قوة داخلية هي مصدر الخلق الفني.
كان كل شيء جميلا في السينما. سيكون كل شيء جميلا في الحياة.