"الحياة تحاكي الإبداع" يبحث عن أصل الفنون

الكاتبة المغربية لطيفة لبصير: الكتابة هي سعادة الطلق.
الأربعاء 2024/02/07
من أين يأتي الإلهام (لوحة للفنان عصام معروف)

مازال السؤال عن منشأ الإبداع وكيف يأتي ويقدح في ذات المبدع، سؤالا محيرا، يقرأه كل باحث من زاويته، مقدمين أجوبة تتراوح بين النفسي والتاريخي والمعرفي والاجتماعي والعلمي وغيرها. ولكنها وإن كانت تختلف في التشخيص فإنها تتفق في أن للإبداع مكامن خفية مجهولة تحتاج إلى الكشف.

من أين ينبثق الإبداع؟ هذا هو السؤال المحوري الذي تعتمده الكاتبة المغربية لطيفة لبصير رهانا لدراستها في كتابها “الحياة تحاكي الإبداع”، ذلك أن العديد من المبدعين لا يستطيعون تحديد مصدر رغبتهم الجامحة في الإبداع بمنتهى الدقة، كما أننا حين نقرأ أعمالهم الإبداعية أو نتأمل فنهم بشتى تجلياته فإننا نقف في الكثير من الأحيان على فصول منتزعة من حيواتهم قد يجهلون هم أنفسهم مصادر خلقها، حتى إن معرفة ذواتهم تنبني في الغالب الأعم على الشك في الأصول وكأن الشك في حد ذاته سر وجودها.

الإبداع ذلك المجهول

بوكس

لا يستطيع حتى كبار النقاد فك ألغاز الإبداع والأشياء الغريبة التي تحير حتى علم النفس الإبداعي في كشف خيوط وملابسات العملية الإبداعية، وهذه صفة يتسم بها تقريبا معظم النتاجات الإبداعية.

وانطلاقا مما سبق تحلل المؤلفة العملية الإبداعية وتبين أن الداخل الإنساني هو نفسه أكثر غرابة من الواقع، فحين نتأمل الإبداع عموما، نجد تلك التجارب التي أحدثت نوعا من المشاكسة الجميلة للذوق وزعزعت طمأنينته، فحين يرسم الفنان التشكيلي رونيه ماغريت لوحة بها غليون طبيعي ويقول للمتلقي “هذا ليس غليونا”، فإنه يقض مضجعه ويدفعه إلى البحث عن معرفة أخرى تختلف تماما عما يراه ويعرفه، وذلك بالتأمل في ما وراء الصورة التي تبدو واقعية، والتي يرى فيها المتلقي غليونا رفيعا وحسب.

لكن الجملة الشهيرة لماغريت تثبت أن جدوى الغليون غير موجودة في اللوحة لأن “الانتفاع” به يكمن خارج اللوحة، أما داخلها فينبغي أن ننظر إليه كعمل فني داخل سياق فني خاص مستقل، والسياق هو الذي يحدد وظيفته، وقد راهن الفن والإبداع عموما على هذه التوترات والانقلابات في صيغ تأليفه، إذ إنه يجسد عملا إبداعيا صادقا للمتلقي بشكل لا إرادي ولا واع في بعض الأحيان.

من ناحية أخرى عندما يتحدث الكاتب/ المبدع عن عدد من شخصياته، يبدو أن الكثير من ملامحها تشبه شخصيات في الواقع، وذلك أن الواقع يلهم الإبداع، لكن حين يحدث العكس أي حين تحاكي الحياة الإبداع، فإن ذلك يطرح سؤالا آخر على الآداب، إذ الإبداع يمسي والحالة هاته مستبقا لواقعه الآتي، تماما كما حدث للعديد من الكتاب حين رأوا شخصياتهم المتخيلة تمشي على الأرض وبكل التفاصيل والملامح العامة والخاصة ذاتها والأحلام نفسها. حدث هذا للكثير من الأدباء العالميين مثل أوسكار وايلد، الذي أبدع في عمله الشهير “صورة دوريان غراي” ثم ظهرت تجليات هذا العمل فيما بعد، حين أثارت القبلات الحمراء على قبره العديد من الفضوليين لمحاولة اكتشاف اللغز وراء كل ذلك.

وقد طرح بيير بايار في كتابه الشهير “الغد مكتوب” هذه الفكرة العجيبة التي تراهن على أن العديد من الأعمال الأدبية مكتوبة سلفا في زمكان ما، قبل أن يتم لقاء المبدع فعلا بشخوصها وعوالمها. فكأنها كانت تنسج الآتي الموعود دون أن تدري، وهذا ما تدلل عليه الكثير من الأعمال الشهيرة التي تنبأت بقدر/ أقدار بعض شخوصها وهي تنسج عوالمهم المكتوبة مسبقا، فكأنما كانت تكتب المستقبل، ولا عجب إن وجدنا جان جاك روسو يعترف بأن بطلته julie رآها مجسدة بعد الإصدار الأول في امرأة أخرى حية تتأمل الطعام وتمشي في الأسواق.

وترى المؤلفة أن هذا إشكال يظل مطروحا بحدة في الأدب، بل ويثير بعدا آخر من الجمالية التي تمنح الإبداع ذلك الوجه الآخر الذي ليس بالضرورة “محاكاة كل ما حدث ويحدث في الواقع”.

بوكس

تتحدث المؤلفة عن الإبداع كعلاج روحي للإنسان بالإضافة إلى العلاجات الأخرى وتقول إن الكتابة قد عملت على علاج الكثير من الحالات العصابية مثل كتاب “مذكرات مجنون” الذي كتبه سكرايبر، وقد كان يعاني من حالة جنون فجاء كتابه مليئا بالصياغات اللاواعية كونه كتب بما يعرف بالدرجة الأولى، التي يمكن أن نطلق عليها “الدرجة الخام” أي دون تشطيب أو حذف الزوائد التي يتداركها المبدع وهو يعيد صياغة ما كتبه، ويعتبر ذلك بمثابة علاج ذاتي بحيث يطرد المبدع كل هواجسه الداخلية ويعدمها حين يراها أمامه، وكأنها تعبث بالمشهد الآخر المعتم للذات.

وعلى أي حال يمكن اعتبار الكتابة علاجا ذاتيا حتى لو لم يكتب الكاتب النص عن ذاته، فهو يتحرر حين يخلق عوالم أخرى، لأنه يبث فيها كل مكونات عوالمه الغامضة التي لا يستطيع في أحيان كثيرة تفسيرها، ولذا ترتبط الكتابة عموما بما تسميه المؤلفة بـ”سعادة الطلق”.

الأدب والحب

ترى المؤلفة أن بالرغم من أن الأدب لم يعد يهتم بالنهايات السعيدة، ذلك أن الاحتفاء باللقاء بين الحبيب والحبيبة لم يعد الهدف الأساس للأديب المبدع، إلا أن الكاتبة السعودية زينب حنفي تنجز رواية من عيار آخر بعنوان “وسادة لحبك”، والتي تتحدث عن امراة أربعينية فقدت زوجها لسنوات وعاشت حياتها مع ابنتها إلى أن زوجتها ثم التقت بشاب يصغرها بسنوات ونشأت بينهما قصة حب عنيفة.

وتقف الكاتبة على مخاوف المرأة من الارتباط برجل يصغرها سنا، لأن معظم صديقاتها يعانين من خيبات الأمل مع أزواجهن الذين يبحثون عن فتيات صغيرات كواعب تراب، الشيء الذي يجعلها تفكر في نوع هذه العلاقة وفي الزمن القادم، والذي ستبدو فيه المرأة تقاوم شيخوختها. والرواية تطرح هذه المعاناة للأرملة في مجتمع تقليدي له موروثاته المتراكمة التي لا يستطيع الانفكاك منها.

وتشير المؤلفة إلى أن الأدب لا يقاوم الحب إذا دخل محرابه لأنه متعدد الوجوه، كثير المنافذ، غريب الأطوار، غامض الصور، ولذا فهو يسائله في كل شيء، في إعلانه عن الحب، وفي صمته، وفي الحديث عنه بتفصيل ومحاولة فهمه دون أن ينطقه، في مثاليته المطلقة، وفي ارتياد محرماته، في شهوته ونفوره وفي هدوئه وقربه، في رغبة الأشخاص القوية في الحديث عن الحب وعن الجسد داخل الأدب، في عجلة الشخوص من أمره خوفا من موت يداهم، أو بون إجباري محتوم.

الكتاب جدير بالاهتمام والقراءة والتمعن، وهو يتضمن بالإضافة إلى ما تم عرضه هنا، قراءات ودراسات وتحليلات للعديد من الأعمال الأدبية والإبداعية.

12