الحوار الإعلامي التونسي يفتقد الأفكار لمعالجة الأزمات السياسية

البرامج الحوارية المواطنية كما يسميها الباحثون تهدف إلى إبراز الرهانات المتضاربة كما كان ينبغي أن يحدث في شأن نيابة الرئيس التونسي.
الاثنين 2019/07/01
هدف فرجوي لغايات تجارية

“من الحوار تنبثق الأنوار” جملة لخص بها القس فرانسوا بورغاد، في يونيو 1859، في افتتاحية له باللغة الفرنسية، دواعي إنشائه البرجيس وهي أول صحيفة ناطقة بالعربية في باريس. ويبدو أن الرجل، الذي أقام في تونس سنوات، وأسهم في إرساء المطبعة التونسية وغيرها من المعاهد والمدارس والكنائس، يعلم أن الحوار لم يكن السمة الأبرز في محيطنا.

ويبدو أن ما خلص إليه القس بورغاد، لدواع تبشيرية معلومة، من ضعف الحوار أو غيابه عندنا مازال قائما. لقد أظهر الإعلام في 27 يونيو، في خضم ما راج عن وفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، أنه لم يحسن توظيف الحوار الإعلامي كإحدى الأدوات الضرورية من وظائف الإعلام لإنارة الرأي العام في محيط ديمقراطي أو هو يتوق إليه.

فبينما أصابت فيسبوك، وحتى بعض القنوات التلفزيونية، حمى القول ونقيضه عن حالة الرئيس الصحية، يوم التفجيرين الإرهابيين في تونس العاصمة، تفطن الإعلام فجأة، في رد على حمى فيسبوك أولا ثم القنوات الإخبارية لاحقا، إلى أن الهيئة المكلفة دستوريا بالحسم في من ينوب الرئيس في حالة العجز المؤقت أو الدائم، وهي المحكمة الدستورية، غير موجودة.

صحيح أنه تفطن إلى الأمر، وإن متأخرا، ثم أدرك أن غياب المحكمة الدستورية يمثل مشكلة بل عائقا في طريق الحسم في أمر نيابة الرئيس غير أنه أخطأ سبل العلاج لأنه أخطأ في تقدير المشكلة الحقيقية التي لم تكن في غياب المحكمة الدستورية في حد ذاتها بل في طريقة تجاوز غيابها.

لم يفلح الإعلام التونسي لأنه تعود على نمط واحد من إنتاج ما يراه برامج حوارية وهي ليست كذلك

لقد استدعت بعض القنوات التلفزيونية والإذاعية في بلاتوهات “حوارية” مباشرة مختصين في القانون وبيّن هؤلاء، بصفتهم خبراء، أن غياب المحكمة الدستورية يعطل نيابة رئيس الجمهورية فتبين وقتها أن المطلوب من المختصين لم تعد خبرتهم فقط، لأنهم قالوا متفقين ما كان ينبغي قوله، بل أصبح المطلوب إيجاد مخرج مما لا مخرج منه دستوريا.

وهنا يتضح بجلاء أن طلب الخبرة للفهم والإفهام أمر يُدرك بحضور خبير واحد في البلاتوه، كما فعلت القنوات التلفزيونية والإذاعية التي أحضرت كل واحدة منها خبيرا واحدا في القانون، في حين أن البحث عن مخرج كان يحتاج، لا إلى خبير واحد، بل إلى خبيرين على الأقل للتحاور في أمر أصبح سياسيا يحتاج إلى إنتاج أفكار لا إلى إسداء توضيحات.

ولما كان كل خبير يغرد على قناة بمفرده ظهرت فكرتان للخروج من مأزق غياب المحكمة الدستورية. وتدعو الفكرة الأولى إلى توسيع صلاحيات الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين والثانية إلى تكوين لجنة من الأطباء تعرض تقريرا عن حالة الرئيس الصحية على البرلمان ليصدر إعلانا يبين فيه إن كان الرئيس في حالة عجز.

اكتفى الفريقان، كل مختص على حدة، بفكرته ودحض كل فريق فكرة الفريق الآخر، كل خبير في بلاتوه، في غياب خبير آخر يناقشه، وظل التونسيون أمام جدل عقيم يعرض فيه الخبير فكرته ويحاوره فيها من لا يملك من الخبرة ما يكفي لمناقشة الأمر من ضيوف آخرين وصحافيين هم في واد والخبير في آخر.

وليس من البديهي القول إن الحوار الذي يُنتظر منه إنتاج أفكار يحتاج إلى خبيرين على الأقل والدليل أن القنوات التلفزيونية والإذاعية لم تفعل يومها. ولو كان الأمر بديهيا لترك الكتابة فيه باحثون مثل بيتر لونت وسونيا ليفنغستون وجيرت جاكوبس وميخائيل باختين ومارسال بورجي صاحب كتاب “القول الإعلامي والمواجهة في الميديا” وغيرهم لبيان وظيفة الحوار الإعلامي في إدارة تناقضات الحياة السياسية.

وملخص ذلك أنه لا بد، في مثل تلك الحالة، من أكثر من خبير للحوار في الأفكار التي تؤدي إلى معالجة الأزمات السياسية عبر المقارعة والمفاوضة اللتين تؤديان إلى صيغة يمكن للناس أن يتفقوا عليها لحل المسائل المستعصية. وكان ذلك ما يحتاج إليه التونسيون يوم 27 يونيو وهو حوار بين مختصين في بلاتوه واحد قصد البحث عن وسيلة “يخرقون” بها الدستور في انتظار أن يحميه النواب بالتعجيل بإحداث المحكمة الدستورية.

Thumbnail

لم يفلح الإعلام التونسي لأنه تعود على نمط واحد من إنتاج ما يراه برامج حوارية وهي ليست كذلك. لقد تعودت القنوات التلفزيونية على إنتاج ما يسمى “حوار البلاتوه” المتمثل في دعوة عدد من الضيوف، قد يبلغون الخمسة، من مشارب مختلفة، ليدلي كل بدلوه مما يفضي إلى تبادل تجارب أو أفكار تبقى عند ذلك الحد وقد يتحول الأمر إلى الجدل العقيم أو إلى العراك أحيانا. ويذهب في الذهن أن ذلك النمط المستقى من برامج الـ”توك شو” هو البرنامج الحواري الوحيد الممكن.

وما يزيد الطين بلّة أن يجد مدير الحوار نفسه في بلاتوه لا مختصين فيه، إذْ لا مضمون يدعو إلى الاختصاص، فيتجاوز دوره التعديلي في إدارة الحوار بالأسئلة والتلخيص وإعادة الصياغة والحرص على التوازن فيصبح خصما في الحوار فيتحول الحوار إلى جدل أو إلى حلبة صراع يضمن الفرجة غير أنه لا ينتج أفكارا بالضرورة.

ومثال عن ذلك هو الدور التحريضي الذي يلعبه أحد صحافيي تلفزيون الجزيرة في برنامج يحسبه كثيرون حواريا وهو فرجوي يهدف إلى تأجيج الصراع بين المتحاورين الاثنين لا إلى المقارعة والمفاوضة لمساعدة الناس على الفهم. هو هدف فرجوي لغايات تجارية تتمثل في جلب العدد الأكبر من المشاهدين.

البرامج الحوارية المواطنية كما يسميها الباحثون تهدف إلى إبراز الرهانات المتضاربة كما كان ينبغي أن يحدث في شأن نيابة الرئيس التونسي. كان هناك رهانان في الجدل الذي طغى على البلاتوهات في 27 يونيو بين أن ينوب الرئيسَ قائد السبسي رئيسُ الحكومة أو رئيسُ البرلمان. رهانان لم يذكرا بوضوح كاف. والخوف من الخوض في الرهانات السياسية في مثل ذلك مؤشر على غياب الاستقلال في الحوار.

كان يمكن عقد الأمل على حوار تنبثق منه الأنوار في المكتوب بأن يتولى الصحافي عرض الأفكار المتضاربة دون تدخل لأن الإغراء في المكتوب معدوم أو يكاد. والمكتوب يكبح فتنة الظهور ويسحق بروز “المنشط النجم” (الإعلامي) غير أن في المكتوب لعنة…لعنة العزوف عن القراءة.

18