الحنين إلى إيطاليا

لقد خرب التونسيون مطبخهم حبا بالمعكرونة، فهل كان ذلك تشبها منهم بالإيطاليين أم لأنهم اكتشفوا في المعكرونة فوائد صحية لم يكتشفها أحد سواهم؟
الخميس 2022/09/08
أهو نوع من الوفاء؟

قضى الروائي المصري ألبير قصيري الجزء الأكبر من حياته مقيما في فندق بباريس وحيدا.

كان كسولا وعاش من عائدات كتبه التي كانت روايات عن الحياة اليومية في مصر التي ولد فيها عام 1913 في عائلة ثرية.

عاش في غرفة بفندق في حي سان جيرمان دوبريه منذ 1945 إلى وقت وفاته عام 2008.

عاش قصيري كالمسافرين. “مسافر زاده الخيال” ولكنه أدار ظهره إلى بلده الأم ولم يعد إليه.

رواياته كلها تُرجمت إلى العربية وتم تحويل عدد منها إلى أفلام.

صار مسافرا بين لغتين وهو الذي كتب رواياته بالفرنسية التي أجادها منذ الطفولة.

ذكرتني حكايته وكنت قد رأيته قبل سنوات في إحدى مقاهي سان جيرمان وأظنها مقهاه الوحيدة بأغنية محمد عبدالوهاب التي كتبها أحمد رامي الذي درس هو الآخر في باريس “يا وابور قلي رايحين إلى فين”.

 ذلك سؤال وجودي قد يكون قصيري فكر فيه ومن خلاله كثيرا، فهو مسافر أبدي لا يملك حقيبة ومن غير أن تقلقه حجوزات الطيران.

لا أحد يصرخ وراءه “يا مسافر وحدك وفايتني/ ليه تبعد عني”. لا أحد يسأل عنه سوى الناشرين.

مبكرا اكتشف قصيري أن اللغة كانت بلاده. الفرنسية كانت بلاده غير أنه لم يكتب إلا روايات عن مصر. لم يكن في رواياته خواجة بل ابن البلد.

لقد تمرد في حياته ليكون مقيما على بساط الريح الذي سحرني به فريد الأطرش يوم غنى لتونس “غزلانك في المرسى/ ولا في حلق الوادي” فذهبت إلى حلق الوادي مستسلما لحلم المكان الساحر فاكتشفت أن الأطرش قد تغنى بمدينة قديمة لم يعد لها وجود.

لقد هجرها الإيطاليون. فبدت مدينة فقيرة وكريمة في الوقت نفسه. يمكن أن تعود جميلة لكن بشروط صعبة. في مقدمتها أن تكون واجهة مريحة للسفر. أن تعود مدينة مسافرين يتناولون المعكرونة في كل وجباتهم كما لو أنها جزء من وصية عائلية.

 لقد خرب التونسيون مطبخهم حبا بالمعكرونة، فهل كان ذلك تشبها منهم بالإيطاليين أم لأنهم اكتشفوا في المعكرونة فوائد صحية لم يكتشفها أحد سواهم؟

حين يعود الإيطاليون سيجدون مطبخهم جاهزا لكن بلمسات تونسية. أهو نوع من الوفاء؟

ولكن الغريب أن اليمني على سبيل المثال حين يسافر يبحث عن مطعم يمني ليأكل فيه المندي والعراقي يبحث عن المسكوف والفلسطيني عن المجدرة والمصري عن الكوشري، إلا التونسي فإنه يسأل عن المعكرونة كما لو أنها وجبته الوطنية. الحنين إلى إيطاليا ليس حكرا على الإيطاليين.

20