الحلاج العاشق يعود لمواجهة المتطرفين

متصوف يثير غضب المتشددين ويهاجمونه مرة أخرى على الرغم من مرور 11 قرنا من الزمان على محاكمته وإعدامه.
الجمعة 2019/05/24
شاعر قتله الحب

إلى اليوم ما زال الحلاج، وهو من كبار المتصوفين واسمه الكامل أبوعبدالله حسين بن منصور الحلاج، شخصية مثيرة للجدل، حيث يثير أي استدعاء له أو لأقواله انتفاض السلفيين والمتشددين الدينيين، وهم أنفسهم من تسبب في قتله ببشاعة سابقا، ويعودون اليوم لينالوا من ذكرى هذا الرجل الذي لم يكن ذنبه إلا الحب الإلهي.

تبدو حسابات الانتصار والهزيمة نسبية، وتختلف من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر. ويكشف الصخب الدائر والهجوم المتعمد من جانب السلفيين على مسلسل “العاشق.. صراع الجواري” لمؤلفه أحمد المغربي، ومخرجه علي محيي الدين علي، أن الصوفي الكبير الحسين بن منصور الحلاج، الذي يتناول المسلسل سيرته ما زال موجعا وفاضحا للمتشددين، على الرغم من مرور 11 قرنا من الزمان على محاكمته وإعدامه.

حكمت السلطة الدينية في العام 309 هـ/ 922 م على الرجل بالجلد والصلب ومات صابرا محتسبا، وهو يردد أبيات من العشق الإلهي دون خوف أو وجل. وتاجرت الدولة المتحالفة مع المؤسسة الدينية بقضيته تحت لافتة حماية دين الله.

على مدى قرون طويلة تكررت المأساة بظروف مشابهة وأسماء مغايرة، بزعم حماية حكومات ما للدين، لتُنحر رقاب مفكرين ومبدعين، ويسجن ويُنفي كُتاب وشعراء، وتغض السلطة الطرف عن تكفير واغتيال معنوي وفعلي لأصحاب الرأي لإرضاء السلفية المتغلغلة في مجتمعاتنا العربية.

استدعاء مناسب

صديق الفقراء  والزاهد في كل شيء
صديق الفقراء، وهو الزاهد في كل شيء

نظرة سريعة على سيرة الحلاج المقدمة في المسلسل تفسر لنا دوافع الهجوم الإلكتروني الحاد من جانب رجال الدين وجماعات السلفية، حيث تطرح قصته الوجه الآخر للدين، والذي يتجاوز المظاهر والشكل ليتسرب إلى القلب والروح. دين يقوم على المحبة والرفق والتسامح والانسحاق أمام مطامع الدنيا، والابتعاد عن السياسة وأهلها، ومساندة الفقراء ونجدة المظلوم.

يتناول المسلسل الذي أنتجه ياسر فهمي وإياد الخزوز بالتعاون مع تلفزيون أبوظبي وقائع الإضطراب السياسي في العصر العباسي الثاني عند وفاة الخليفة المكتفي بالله دون أن يختار وليا للعهد، ما دفع وزيره إلى البحث عن خليفة قوي يعرفه الناس ويحبونه بدلا من شقيق الخليفة الذي مازال صبيا تتحكم فيه أمه الجارية شغب.

ويجد الوزير ضالته في الشاعر والأديب ابن المعتز أحد أبناء الأسرة العباسية، ويبايعه لتبدأ الحرب بينه وبين جعفر الصبي الذي يعاونه أحد رجال الدولة الشيوخ، وينتهي الصراع سريعا لصالح الصبي الذي يتم تنصيبه خليفة باسم  المقتدر، لكنه يبقى ألعوبة في أيدى الجواري والنساء.

نظرة سريعة على سيرة الحلاج في المسلسل تفسر لنا دوافع الهجوم الحاد من جانب رجال الدين وجماعات السلفية

يتفرغ جعفر للهو والنساء تماما ويترك أعمال الدولة لأمه شغب التي تستخدم عدة جواري في إدارة الحكم، في الوقت الذي يبدو فيه الناسك المتصوف الحلاج مناديا بالعدل، ونموذجا في الزهد ووراءه تسير طائفة من المحبين والمريدين.

 يظهر التناقض في أعظم صوره بين الحكام ورجالهم وأصحاب المال المتحالفين معهم والممثلين في النخاس الشهير “النطل” من جانب، وجماعات الصوفية الفانية في الله والمخاصمة لكافة أنواع الجاه والسلطة والممثلة في الحلاج وتلاميذه وأبرزهم الشبلي في الجانب الآخر.

تتحالف السلطة الدينية الرسمية مع السلطة السياسية لمقاومة التصوف، ويبدأ العمل الفني بمناظرة بين قاضي قضاة بغداد الشيخ ابن داوود الظاهري، والحلاج الذي يفرق بين الظاهر والباطن، والعلم المعتاد وعلم الإشارات الإلهية.

ولما كانت السلطة السياسية القائمة تواجه الفتن والمحن، مثل عدم اعتراف قطاع من العامة بها، وتعرضها لتمرد الجنود كل حين عندما تتأخر منحهم المالية، فإنها وجدت ضالتها في التحالف مع السلطة الدينية الرسمية تحت دعوى الذود عن الدين ضد المهرطقين.

الناسك المتصوف المنادي بالعدل
الناسك المتصوف الحلاج مناديا بالعدل

هكذا تتخذ السلطة من الحلاج ورجاله هدفا لاستعادة استقرارها واكتساب شعبية ونيل رضا العامة، فتواجهه وتكفره لينتهي الأمر بالمأساة الشهيرة، حيث يحكم على الرجل بالموت أمام الناس.

أصبحت العودة إلى شخصية الحلاج أكثر ما أوجع المتشددين، فالرجل في نظرهم “مُهرطق، باطني، تعلم السحر وادعى التصوف لينشر الضلال ويفتن الناس”.

وهي اتهامات مقولبة يكررونها دوما على كل مخالف لفكرهم، ينجح في جذب العامة والتعبير عن سماحة الدين ورحمته.

نشر الداعية السلفي سامح عبدالحميد حمودة، بيانا في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية المصرية ادعى فيه أن الحلاج “كافر” بإجماع الفقهاء، وأن ابن كثير مدح القاضي الذي حكم بموته، وابن تيميه كفر مَن يعتقد مذهبه، بل إن الصوفيين أنفسهم تبرأوا منه، وهو ما يناقض التاريخ ويعكس الخوف الشديد من كلمات الرجل واستعادة سيرته دراميا.الرجل عند الأدباء والشعراء صديق الفقراء، وهو الزاهد في كل شيء، والمتسامح مع الآخرين، وكان في مشهد موته الذي نقله مكفروه مثالا للإباء والشجاعة والإصرار على الحق، مكررا أن سلاح التكفير يشهر في وجوه كل من نادى بالعدل وسعى إلى مساندة الفقراء، وليس من حق أحد التدخل بين المرء وربه، وهو ما ظهر جليا في مسرحية “مأساة الحلاج” للشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور، والتي كانت من أوائل الأعمال الأدبية التي تناولت سيرة الرجل.

خبرات سابقة

تصوير تحكم الجواري في أعمال الدولة
تصوير تحكم الجواري في أعمال الدولة

إذا كانت تجربة المخرج السوري علي محيي الدين علي من بدايات تجاربه كمخرج لعمل تاريخي، فإنه لاشك استفاد من عمله سابقا كمساعد مخرج في أعمال تاريخية أخرى مثل”صلاح الدين الأيوبي”، و”صقر قريش”، و”ربيع قرطبة”، ومشاركته كمخرج منفذ في مسلسل “ملوك الطوائف”.

يمكن القول إن خبرات محيي الدين مستمدة من عمله المتكرر في الدراما التاريخية مع المخرج السوري حاتم علي، ما جعله حريصا على محاكاة نمط العمارة السائدة في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجري، ونقل تصميمات حقيقية للملابس والأزياء السائدة في ذلك الزمن.

 علاوة على السعي إلى توظيف ملكات الفنانين المشاركين في العمل طبقا للسمات الحقيقية للشخصيات الموجودة بالفعل في الواقع، والتي نقلت لنا كتب التاريخ والأدب بعض صفاتها.

أما المؤلف الأردني أحمد المغربي، فقد قام بتقديم الحلاج ضمن شخصيات عديدة دون أن يتركز العمل عليه وحده، ليبدو الأمر مشوقا ومتنوعا ومبنيا على التضاد بين الساسة المنغمسين في التآمر والغدر، وبين الصوفيين المترفعين عن الشهوات والمطامع.

جاءت استعانته ببعض الأشعار والكلمات الشهيرة للحلاج في العمل كضرورة فنية لتقريب المشاهد من أفكار وآراء وتصورات الرجل، ومن بين تلك الأقوال “الويل لمن يغيب بعد الحضور ويهجر بعد الوصل”،  و“سبحانه يحدث الخلق تلطفا، فيتجلى لهم ثم يستتر عنهم، ولولا ستره لفنوا جميعا”.

وبدت بعض الإشارات في المسلسل مباشرة، كأنها تتحدث عن الزمان الحالي وتطوراته، لا عن بدايات القرن الرابع الهجري، فنستمع مثلا لعبارة على لسان تاجر الرقيق المسمى بـ“النطل” في وصف بغداد يقول فيها “هكذا هي بغداد تحسبها هادئة وادعة، وفجأة تنقلب هائجة مائجة”.

أدوار وأخطاء

اغتيال معنوي وفعلي لأصحاب الرأي لإرضاء السلفية المتغلغلة
اغتيال معنوي وفعلي لأصحاب الرأي لإرضاء السلفية 

يتجلى النقد السياسي الموجه للظلم السائد على المستوى السياسي بعبارة للشيخ الشبلي يفسر فيها للحلاج ما دفعه إلى هجر الإمارة والسياسة نحو التصوف، إذ يقول “شاهدت بالسلطان ظلما وعسفا وتحولا من ضد إلى ضد، وكان علي إما أن أستزيد من الجاه والمال أو أن أدفع وأهجر فهجرت”.

كانت البطولة مستحقة في المسلسل من نصيب الفنان السوري غسان مسعود الذي أدى دورا قويا مؤثرا، بدا فيه ملما بظروف حياة شخصية غامضة ومحيرة مثل الحلاج، وقادرا على تقديم أشعاره وآرائه بكلمات قوية معبرة وبنطق عربي سليم، وتظهر ملامحه الصارمة جدية وإصرار وتعكس نظراته العميقة إحساسا رائعا بالزهد في الحياة، وشاع في حياة الصوفي الكبير.

تقدم الفنانة التونسية فاطمة ناصر دورا متميزا لجارية تدعى شغب شاءت ظروف الضعف والاضطراب في العصر العباسي الثاني أن تصبح الخليفة الحقيقي من وراء ستار ابنها الصبي الصغير الذي أصبح بين عشية وضحاها خليفة للمسلمين. وحضر الفنان الأردني منذر رياحنة بقوة في دوره “النطل”، ذلك النخاس الذي لا يعبأ بأي شيء سوى الربح، ويعمل في تجارة الجواري وتعليمهن فن الحب والمرح ليبيعهن لقصر الخلافة وبيوت الوزراء والعظماء. ونقل وجه رياحنة جامد الملامح بدقة، وابتسامته الساخرة امتلكت قدرة كبيرة على زرع الكراهية في نفوس المشاهدين، حيث شعروا أنهم أمام إنسان شرير وقاس ومنافق وانتهازي.

أما الفنانة السورية نانسي خوري والتي تقدم دور “القهرمانة فاطمة”، موضع أسرار أم الخليفة شغب، والجارية المدبرة لكافة أمور الدولة، فكانت مناسبة لإظهار شخصية سيدة جميلة، فطنة، سريعة الملاحظة، على قدر من الصرامة والجمود العاطفي، بما يتناسب مع جارية وضعتها الظروف في مقام الوزير.

يقدم الفنان الشاب أنس طيارة دور الخليفة الصبي جعفر (المقتدر بالله) والذي يبدو وديعا وطيبا، لكنه منشغل أكثر باللهو والنساء وكثيرا ما يضيق بتحكم والدته في شؤون السياسة، ولا يلبث أن يختار الابتعاد حتى لا يغضبها، ويبدو “طيارة” مميزا بدرجة تمثل خطوة إلى الأمام في مشروعه الفني.

ديكورات المسلسل جيدة ومعبرة بشكل كبير عن بغداد زمن الخلافة العباسية، غير أنها في بعض المشاهد لم تظهر اتساع الأماكن، مثل ميادين إعلان قرارات الحكم، أو الأسواق من خلال أماكن تصوير داخل استديوهات صغيرة نسبيا.

جاء تصميم الملابس والحُلي وأدوات الزينة معبرا عن زمن الدولة العباسية في بغداد، حيث الترف والجمال والاهتمام بالمظهر للرجال أو النساء.

ويلاحظ أن اللون الأسود اختفى تدريجيا كلون مميز لملابس رجال الدولة العباسية ليختلط باللون الأحمر، ويتسق مع ضعف الدولة التي اختارت السواد الحالك لونا مميزا في بداية ظهورها.

هناك أخطاء غريبة وقع فيها فريق العمل، أبرزها مشهد إعدام الخليفة ابن المعتز بعد القبض عليه، إذ تم إعدامه ومن معه من أنصار في السجن عن طريق الشنق، رغم أنه طبقا للمصادر التاريخية فقد قتل على أيدي غلمان أبيه، فضلا عن أن المشانق لم تكن وسيلة إعدام خلال عصور الدولة العباسية، وكانت تتم من خلال قطع الرأس بالسيف.

أما مشهد فحص الطبيب الشهير أبوبكر الرازي للخليفة المقتدر عن طريق سماعة طبية معدنية، فيناقض واقعية الزمن، إذ لم يكن الفحص الطبي في ذلك العصر بتلك الطريقة، ولم يكن الطبيب يطلب من المريض الشهيق والزفير ليستمع إلى حالة القلب.

وحمل تصوير تحكم الجواري في أعمال الدولة خلال عهد الخليفة المقتدر جعفر بن المعتضد بعض المبالغات المناقضة للتاريخ، حتى أننا نجد الخليفة يصدر أوامر بالعفو عن خصوم له، فتقوم الجواري بإعادة القبض عليهم مرة أخرى وإعدامهم، وهو ما أنكر أدوار الكثير من الرجال من القادة والساسة في ذلك العصر، وكأن العمل حاول بشتى الطرق برهنة صحة عنوانه “صراع الجواري” أو حكم الجواري.

15