"الحكيمة" و"المعالجة الروحانية" تجسيد لأزمة الإعلام التونسي

ظاهرة تعبر عن أزمة الإعلام الأساسية المتمثلة في غياب المهنية لحساب المال.
الثلاثاء 2024/05/14
واقع إعلامي يعكس واقعا اجتماعيا

تونس - باتت “الحكيمة” أو “المعالجة الروحانية” ضيفا دائما على العديد من القنوات الفضائية في تونس، “تفك الأسحار وتمنع الطلاق وتجلب الحبيب وتحل العقد” تطل على المشاهدين في “وليمة مسائية” دون حسيب أو رقيب، فيما يعتبرها الوسط الصحفي مؤشرا على أزمة الإعلام في ترويج الدجل والخرافة مقابل المال.

واحتلت إحدى “المعالجات الروحانيات” مكانة بارزة في عدة برامج تلفزيونية مع كبار الإعلاميين في تونس، بعد أن كانت هذه الظاهرة حكرا على قنوات الدجل والشعوذة في ظاهرة خطيرة تشير إلى غياب المعايير المهنية وغياب المسؤولية في تقديم مادة تحترم عقل المشاهد وتؤثر على الرأي العام.

ويرى إعلاميون ومثقفون في تونس أن هذه الظاهرة تعبر عن أزمة الإعلام الأساسية المتمثلة في غياب المهنية لحساب المال بسبب قلة احترام بعض الوجوه في قطاع الإعلام، ومعها تيار من الصحافيين لأخلاقيات المهنة الصحفية ومواثيق الشرف المهنية والنقابية، وللقوانين المنظمة لقطاع الإعلام.

ويؤكد هؤلاء أن أزمات قطاع الإعلام استفحلت بسبب أخطاء مهنية شارك في ارتكابها عاملون في المؤسسات الإعلامية ومشرفون عليها، منها الانخراط في لعبة المصالح وصراعات اللوبيات. وكان من نتائجها الخلط بين الحريات الصحفية والفلتان الإعلامي والأمني، حسب أستاذ الإعلام والاتصال والمدير السابق للإذاعة التونسية المنجي المبروكي.

وقال صلاح الدين الدريدي، أستاذ الإعلام في تصريحات سابقة أن هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك فعدّ أن “نكبة البلاد في نخبتها، وأن كثيرين ممّن يتحكمون في المشهد الإعلامي منذ 2011 ليست لديهم خبرة مهنية، ولا يحترمون القانون ولا قواعد العمل الصحافي النزيه”.

برامج تلفزيونية عديدة تردد صدى ما يشاع على مواقع التواصل الاجتماعي بدلا من ممارسة مهمة التوعية والتثقيف

ويلجأ البعض إلى ما يعرف بـ”العلاج الروحاني” اعتقادا منهم بقدرة من يسمّون أنفسهم بـ”المعالجين الروحانيين” على حل المشكلات وعلاج الأمراض وإبعاد “الأرواح الشريرة” وفك “السحر”، وغيرها من الأمور. وتشير بعض التقارير غير الرسمية إلى أن فئة النساء هي الأكثر إقبالا وطلبا وكذلك أكثر من يقنع ضحايا هؤلاء “المعالجين الروحانيين”، غير أن الأزمة هي أن تتحول القنوات الفضائية العامة إلى فضاء لهؤلاء الروحانيين.

والمفارقة أن وسائل الإعلام بدلا من أن تمارس دور التوعية والتثقيف ومحاربة هذه الظواهر، باتت تردد صدى ما يشاع على مواقع التواصل الاجتماعي.

ووفر الإنترنت والشبكات الاجتماعية مساحة انتشار كبيرة لهؤلاء “المعالجين الروحانيين”، حيث يقومون بالدعاية والترويج لأنشطتهم، وكذلك كيفية التواصل معهم.

ووفق الدعاية الموجودة على الإنترنت من جانب البعض ممن يدّعون أنهم “معالجون روحانيون”، هناك من يقول إنه “متخصص في الجلب العام للعرسان وجلب الرزق والحظ وتوجد طلاسم مجربة وخواتم سحرية مطلسمة”. وآخر يدّعي قدرته على “جلب الحبيب ورد المطلقة وعلاج الوسواس القهري والسيطرة على الزوج، والتحكم في تصرفاته”.

ولا يقتصر الأمر على الاحتيال وسرقة الأموال، بل قد يمتد إلى الحياة نفسها. ففي إحدى الحالات توفي طفل مصاب بتشنجات عصبية على يد أحد هؤلاء.

وأرجع مراقبون انتشار هذه الظاهرة إلى الواقع المحبط والمتردي، حيث فقدت البرامج السياسية والاقتصادية والثقافية جاذبيتها ومصداقيتها، الأمر الذي جعل كثيرين ينفرون منها لتستهويهم مثل هذه البرامج.

وسائل الإعلام بدلا من أن تمارس دور التوعية والتثقيف ومحاربة هذه الظواهر، باتت تردد صدى ما يشاع على مواقع التواصل الاجتماعي

وتحاول العديد من وسائل الإعلام التعويض عن نقص المتابعة وانخفاض نسب المشاهدة، باستضافة تلك العرافين و”المعالجين الروحانيين” للتنفيس عن إحباطهم ومشكلاتهم وأزماتهم الحياتية، حيث يجدون فيها مخرجا وهميا بشأن التنبؤ بالمستقبل والبحث عن وضع أفضل. كما أن مالكي تلك الفضائيات يلعبون على أمور الغيب التي يؤمن الإنسان بها لضعف قدراته الطبيعية أمامها، والناس تلجأ إلى مثل تلك البرامج بحثا عن حل لمشكلاتها.

ويؤكد المختصون أن غياب كل من الوعي والثقة في الطب يقود بعض المرضى إلى الدجالين، كما أن خوف البعض من وصمة المجتمع حال لُجوئهم إلى الطب النفسي، تدفعهم إلى طلب المساعدة من المعالجين الروحانيين.

كما أن الاعتبارات التجارية والاقتصادية لها دور كبير وتقف وراء انتشار تلك البرامج، حيث يميل مالكو الفضائيات إلى تجنب الموضوعات السياسية التي لم تعد تحظى بإقبال المشاهد عليها. وأصبح هناك إقبال على هذا النوع من البرامج، لأن تكلفة إنتاجها بسيطة، وتساهم في زيادة الإعلانات التجارية، ومن ثم تحقق أرباحا مالية كبيرة مقارنة بالبرامج العادية.

وتبرز أهمية المواجهة الإعلامية لتلك البرامج عن طريق الهيئات المسؤولة عن تنظيم الإعلام في تونس باعتبار هذه البرامج تهديدا للتماسك المجتمعي.

ورغم الانتشار الواسع لـ”المعالجين الروحانيين” على وسائل التواصل الاجتماعي الذي وصل إلى البرامج التلفزيونية، لا يوجد من يقوم بتنظيم عمل هؤلاء أو مراقبتهم أو التأكد من صحة ادعاءاتهم.

ورغم تحذير الكثير من رجال الدين من استغلال بعض المحتالين لحاجة الناس، وإيهامهم بقدرتهم على تقديم نفع ودفع ضرر، مازال البعض يلجأ إلى هؤلاء.

ويَخلط بعض الناس بين الرقية الشرعية في الدين الإسلامي، والتي يُجمع علماء الدين الإسلامي على جوازها، وبين ما يدّعيه بعض من يطلقون على أنفسهم “المعالجين الروحانيين”.

فبإجماع علماء الفقه الإسلامي، ليس من الرقية الشرعية انفراد الراقي أو الراقية بالشخص طالب الرُقية، أو ملامسة جسده أو جسدها، خاصة المناطق الخاصة من الجسم.

كذلك يُجمع العلماء على عدم جواز ادّعاء الراقي قدرته على الشفاء أو جلب الحظ أو جعل الشخص قادرا على الإنجاب أو تقريبه من زوجه أو إبعاده عنه، وغيرها من الادعاءات.

ويقول متابعون لهذه البرامج أنها تعتبر إفرازات اجتماعية لواقع عربي يزداد قتامة، تعامل معه مالكو الفضائيات بذكاء، بعد دراسة نفسية المواطنين وإيمان الكثير منهم بقوى ما وراء الطبيعة. فتعمّدت بعض الفضائيات تثبيت مساحات يومية من البرامج، تحت مسمّى “معالجين روحانيين” طمعا في تحقيق أعلى نسبة مشاهدة، بعد تقديم ضيوف يدعون القدرة على علاج المرضى بطرق روحانية.

5