الحكومة المصرية مُتهمة بالتسبب في فوضى الأرقام الاقتصادية

يسود جدل واسع بين الأوساط الشعبية والاقتصادية المصرية فجرته تصريحات مسؤولين بشأن إمكانية توفير تمويلات في غضون أيام لتخليص البضائع المكدسة في الموانئ رغم أن البلد يعاني من شح في العملات الأجنبية ولم يتلق قروضا أو مساعدات تؤكد تدبير المبلغ المطلوب.
القاهرة – حمّل خبراء السلطات المصرية مسؤولية الفوضى في الأرقام الاقتصادية التي أدت إلى انتشار الشائعات، بعد أن باتت مشغولة بنفيها من دون وضع الأمور في نصابها الصحيح وتوضيح الحقائق المالية كاملة، والتي تتطلب شرحا يسهل استيعابه من كافة فئات الشعب.
وتطغى على الأوساط الشعبية هذه الفترة حالة من التذمر بسبب أزمة إخفاء حقيقة المؤشرات التي يتم تداولها على ألسنة وزراء ومسؤولين ووسائل إعلام مختلفة.
ويظهر ذلك بوضوح في لقاءات الرئيس عبدالفتاح السيسي أثناء أحاديثه مع كبار المسؤولين عن المشاريع التي يدشنها أو في المناسبات الرسمية، ومطالبته الدائمة بالمكاشفة مع الشعب ومخاطبة الرأي العام بالأرقام والتعريف بالحقائق وطبيعة المشاريع.
ولم يخرج مسؤول مصري لمصارحة الناس بحقيقة قيمة البضائع المكدسة في الموانئ التي قارب وجودها على الأرصفة نحو عشرة أشهر سوى رئيس الوزراء مصطفى مدبولي مطلع هذا الشهر.
وقدر مدبولي قيمة البضائع المكدسة في الحاويات بنحو 14.5 مليار دولار، وقد تم الإفراج عن بضائع بقيمة 4.5 مليار دولار فقط منذ بداية ديسمبر وحتى الثالث والعشرين منه.
وجاء ذلك بينما أعلن السيسي في الأول من يناير الجاري عن الإفراج عن بقية السلع خلال أربعة أيام على أقصى تقدير، ما يثير تساؤلات عديدة حول كيفية توفير التدابير المالية الخاصة بالعملة الأجنبية التي تسبب نقصها في إنهاك اقتصاد البلاد.
وتطرح لغة الأرقام المراوغة تساؤلات عن مدى فائدة قرض صندوق النقد الدولي والذي وضع شروطا قاسية على القاهرة ستتسبب في عبء كبير على المواطنين، فالقرض الذي وافق عليه الصندوق أخيرا بقيمة 3 مليارات دولار سيتم منحه على مدار أربع سنوات.
ومن خلال تحليل الأرقام فإن القيمة المالية المقدرة بنحو 9.5 مليار دولار منها 3.5 مليار دولار بضائع صب، أي يتم استيرادها بغرض إعادة تصديرها مباشرة وهي لا تدخل السوق المحلية.
في المقابل، فإن القيمة المتبقية سوف يتم الحصول عليها من قرض صندوق النقد وتمويلات تنموية دولارية من شركاء مصر الإقليميين والدوليين.
ووافق البنك الدولي على قرض بقيمة 500 مليون دولار لتوسيع برنامج “تكافل وكرامة” وسط ارتفاع التضخم في أسعار الغذاء والطاقة، وفقا لبيانات وزارة التعاون الدولي، وهي سيولة دولارية تدخل خزينة البنك المركزي يستفيد منها مقابل دعم برنامج تكافل بالجنيه.
كما وقعت وزارتا التعاون الدولي والنقل مع السفارة اليابانية والوكالة اليابانية للتعاون الدولي “جايكا” الشريحة الثانية من التمويل الإنمائي الميسر لتنفيذ المرحلة الأولى من الخط الرابع لمترو الأنفاق بقيمة 301 مليون دولار وهي سيولة دولارية متدفقة أيضًا.
ويساعد مصر على استكمال التدفقات الأجنبية ما سيدخل إلى السوق المحلية من أموال ساخنة ناجمة عن رفع الفائدة بشكل قياسي مؤخرا، ما يدفع الأجانب إلى انتهاز الفرصة وتحقيق الأرباح عبر تحويل الدولار إلى جنيه والاستفادة من تدهور قيمة الأخير ثم الخروج بعائد أعلى.
ولم يُدل أي مسؤول بتصريحات توضح طبيعة الأرقام الشائكة، سواء من المركزي أو وزارة المالية، وربما تعتقد السلطات النقدية أن ذلك من ضمن إفشاء الأسرار المالية التي لا ينبغي الكشف عنها إلا للمؤسسات الدولية المانحة لتلقي تمويل، وبصفة خاصة صندوق النقد.
ويقول محمد حسين، وهو تاجر في قطاع الدواجن، لـ”العرب” إنه كمواطن فوجئ بما أعلنه السيسي بشأن الإفراج عن البضائع المكدسة في الموانئ خلال أربعة أيام فقط.
وأضاف “لا أعرف من أين جاءت الدولة بكل هذه الدولارات دفعة واحدة، وإذا كان الأمر يسيرا كما شاهدنا في كلام الرئيس السيسي، فلماذا تأخرت الحكومة وتركتنا نعاني من الغلاء وضيق المعيشة طيلة الشهور الماضية”.
وفي سبيل جذب مزيد من الدولار، أعلن المركزي طرح أذون خزانة لأجل عام قيمتها 850 مليون دولار في مزاد في الثاني من يناير، وطرح البنك سابقا أذون خزانة لأجل عام بقيمة 990 مليون دولار في الخامس من ديسمبر الماضي.
كما صدرت البلاد أول شحنة من الذهب عيار 21 إلى السعودية دون رسوم التثمين المقدرة بنحو واحد في المئة لتشجيع التصدير وجلب العملة الصعبة.
وأكد الخبير الاقتصادي رشاد عبده أن كل وزارة معنية بالأرقام الخاصة بها، فالبضائع في الموانئ يجب أن تصدر من مصلحة الجمارك أو وزارة المالية، وتصدير الحاصلات الزراعية المنوط بها وزارة الزراعة، والسياسات النقدية والعملة الأجنبية يختص بها المركزي، وهكذا.
وأعلن مجلس الوزراء أنه سينشر تقارير أسبوعية عن البضائع المفرج عنها من الموانئ توضح بالتفصيل كمية ونوع البضائع المفرج عنها كل أسبوع.
وأوضح رشاد عبده لـ”العرب” أن هذا لم يتحقق في الآونة الأخيرة، وهي آفة الدول النامية، وأزمة تضارب الأرقام ظهرت بقوة مع أزمة تكدس البضائع بالموانئ التي ترتب عليها تعطل المصانع وموجة تضخم لمعظم السلع.
وكشفت الأزمة عن عدم وجود مصارحة من الحكومة بالكميات الراكدة في الموانئ والتوقيت الدقيق للإفراج عنها، ولم تتحرك إلا بعد تداول صور لإعدام كتاكيت من جانب بعض المربين لعدم قدرتهم على توفير الأعلاف اللازمة.
عدم المصارحة الحكومية لا يقتصر على المبالغ المتعلقة بتدبير العملة، بل يشمل عدم الإعلان عن معدل النمو الاقتصادي
وذكر سعيد يونس عضو جمعية مستثمري السويس أن السوق المصرية تعاني من تضارب في الأرقام بسبب غياب التصريحات الرسمية في هذا الشأن.
وقال لـ”العرب” إنه “لا توجد شفافية من جانب المسؤولين بخصوص القضايا الاقتصادية الشائكة، ما يفتح الباب للاجتهادات المرفوضة التي تؤثر سلبًا على سمعة الاستثمار في مصر”.
وأشار إلى أن الحكومة سبب رئيسي في انتشار الشائعات الاقتصادية على الشبكات الاجتماعية، لأنها مشغولة بقضايا أخرى يتم نفيها فقط عبر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، فيما تشهد فقرا في توضيح الحقائق الاقتصادية بدقة للمواطن “غير المتخصص”.
ولا يقتصر عدم المصارحة الحكومية على المبالغ المتعلقة بتدبير العملة، بل يشمل عدم الإعلان عن معدل النمو الاقتصادي الذي يتم وصفه دائما بأنه “من بين النسب الأفضل عالميا في العامين الماضيين” في ظل ظروف الجائحة.
ويتجاهل العديد من المسؤولين الحديث عن مكونات النمو الذي تحققه الدولة، وهل هو من مشاريع إنتاجية أو استثمارات جديدة مثل بناء المصانع أو القطاع الزراعي أو الفندقي الذي من شأنه أن يدر عائدا ماليا جيدا وعملات أجنبية.
وفي حقيقة الأمر، لو اشتملت معدلات النمو على ذلك لما لجأت مصر إلى الاقتراض أو الوقوع في أزمة شح العملة، ومن ثم فإن مكونات هذا النمو عبارة عن ديون.