الحكومة المصرية تُباعد المسافة بين النظام والبسطاء

انسحاب الحكومة تدريجيا من دعم بعض السلع التموينية خطوة تقوض دور برامج الحماية الاجتماعية في تخفيف تداعيات الأزمة الاقتصادية.
الاثنين 2023/05/01
خيبة أمل في صفوف البسطاء

القاهرة- أقدمت الحكومة المصرية على خطوة جديدة من شأنها أن تباعد المسافة بين النظام الحاكم والبسطاء، بعد قرارها زيادة أسعار بعض السلع التموينية التي يتحصل عليها محدودو الدخل بحجة أن أسعارها الحقيقية شهدت زيادات قياسية.

وقال علي المصيلحي وزير التموين والتجارة الداخلية، السبت، إن زيادة أسعار السلع التموينية (المدعمة) أمر حتمي، لأن الفارق الكبير بين تسعير السلع عبر بطاقات التموين وبين السوق الحرة يخلق مشاكل في استخدامها بشكل غير قانوني من خلال السوق الموازية أو ما يسمى بـ”السوق السوداء”.

وعزا المصيلحي أهمية زيادة أسعار بعض السلع المدعمة إلى الفجوة المتأتية من أن أسعارها بعيدة تماما عن الواقع، لكنه يميل إلى إحداث زيادة تدريجية في الفترة المقبلة، فور موافقة مجلس الوزراء.

طلعت خليل: الحكومة مخطئة في مساومة الناس على الأمن والاستقرار بزيادة الأعباء عليهم
طلعت خليل: الحكومة مخطئة في مساومة الناس على الأمن والاستقرار بزيادة الأعباء عليهم

وتبدو وزارة التموين بهذه الخطوة كمن ينسف المكتسبات السياسية التي حققها النظام المصري بعد تكليف الرئيس عبدالفتاح السيسي للحكومة الخميس برفع موازنة الدعم والحماية الاجتماعية من 358.4 مليار جنيه (نحو 12 مليار دولار) إلى 529.7 مليار جنيه (نحو 22 مليار دولار)، بنسبة زيادة تصل إلى 48.8 في المئة للتخفيف عن المواطنين، ما يُمكّن الدولة من التوسع في شبكة الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجا والارتقاء بمستوى معيشتها.

وأحدث القرار صدمة في صفوف البسطاء، وبعضهم أصيبوا بخيبة أمل لأنهم كانوا على حق عندما استقبلوا زيادة الحماية الاجتماعية الأخيرة بعدم ارتياح، وتخوفوا من اتخاذ قرارات جديدة صعبة، وهو ما تحقق عقب زيادة أسعار سلع تموينية مهمة.

واعتادت الحكومة تهدئة غضب المواطنين ومنحهم مكتسبات مالية في شكل زيادة في الرواتب أو تعظيم مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية، ثم تقوم بتحصيلها بطرق ملتوية، حتى بدت أمام الشارع كأنها تُعطي باليد اليمني ما تأخذه باليُسرى.

ويتسق انسحاب الحكومة تدريجيا من دعم بعض السلع التموينية مع روشتة صندوق النقد الدولي الذي طالب بتقليص فاتورة الدعم المقدم لقطاعات عديدة، مثل الإسكان والتموين والمواد البترولية وغيرها، وتحرير أسعار الخدمات التي يتم تقديمها إلى الناس، لتقليص العجز في الموازنة وخفض فاتورة الديون.

ويستفيد قرابة 64 مليون مواطن مصري من الدعم التمويني من خلال 23 مليون بطاقة لأرباب الأسر والفئات المعيلة وفق ظروفهم المعيشية بعد إثبات عدم امتلاكهم أي مصدر دخل، وهذا رقم ضخم إذا قورن بالظروف الاقتصادية التي تعيشها الدولة، وتخصص لذلك مبالغ مالية ضخمة في موازنة كل عام، لاسيما وأنها تقدم دعما نقديا موازيا لقرابة 3.2 مليون أسرة أخرى ضمن برنامج “تكافل وكرامة”.

وكانت هناك خطة لتحويل الدعم العيني على السلع إلى دعم نقدي ليشتري البسطاء ما يريدون، لكن الحكومة جمّدت الفكرة أمام شعورها بصعوبة تطبيقها بلا فساد ومصالح مشبوهة، لأن وزارة التضامن الاجتماعي اكتشفت أعدادا كبيرة من غير مستحقي الدعم النقدي في برنامج “تكافل وكرامة” يحصلون عليه بالتحايل.

وأمام الخلط بين الدعم العيني على السلع والدعم النقدي للفئات المهمشة تحولت الحكومة إلى ما يشبه “المؤسسة الخيرية” التي لا تختلف كثيرا عن الجمعيات الأهلية المعروف عنها تقديم الدعم الغذائي والإعانات المالية، وهي إشكالية جعلت الكثير من المواطنين يعتمدون على الدعم الحكومي في مرحلة معتبرة من حياتهم.

وتصطدم مساعي الحكومة لتمرير زيادة أسعار السلع التموينية في هدوء وسلام بارتفاع معدلات الغلاء، على مستوى السلع والخدمات الأساسية، وتقويض دور برامج الحماية الاجتماعية في تخفيف تداعيات الأزمة الاقتصادية.

◙ من المستبعد أن يصمد البسطاء كثيرا أمام الزيادة الجديدة في أسعار بعض السلع الإستراتيجية

ويبدو أن الحكومة -وهي تحاول التخفيف من الأعباء الاقتصادية بالإلغاء التدريجي لدعم البسطاء- لا تدرك خطورة التبعات السياسية لتحركاتها، لأنها تسعى إلى استرضاء جهات تمويل دولية من دون اكتراث بارتفاع منسوب الغضب محليا، واتساع دائرة الاحتجاج الصامت من قبل فئات تمثل ظهيرا شعبيا مهما للنظام.

كما أن النظام الحاكم ربما يظهر هنا في صورة سلبية أمام الشارع بسبب تصرفات الحكومة التي قد تكون مضطرة إليها، فهو يسعى لتوفير مظلة حماية للبسطاء ومحدودي الدخل، لكن سياسات الحكومة تورطه بقرارات تقلل مما تحقق من إنجازات.

ولا يزال التحدي أمام الحكومة متمثلا في أنها ورثت تركة ثقيلة من حكومات سابقة كانت تعوّل على الدعم لتحصين نفسها من غضب البسطاء وتخصص لهم مبالغ مالية ضخمة، لشراء صمتهم على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة عبر دعم سلع وخدمات أساسية.

وأمام التغيرات التي حدثت والصعوبات الاقتصادية تجد دوائر رسمية نفسها عاجزة عن مجاراة ما كانت تفعله الأنظمة السابقة، ولم يعد أمام الحكومة سبيلا سوى مصارحة الناس بأنها غير قادرة على استكمال هذه المهمة الثقيلة.

ورغم التحرر التدريجي من دعم الكثير من السلع والخدمات لا يزال هناك جزء من ثقافة المصريين يعتبر الاقتراب منها تجاوزا للخط الأحمر الذي رسمه الشارع لأي رئيس، ولم يعد أمام السيسي سوى مصارحة الناس بكل كبيرة وصغيرة، وهو ما فعله سابقا، لكن الآن ثمة حاجة إلى تكراره بالمزيد من التفاصيل.

ويرى مراقبون أن مشكلة الحكومة تكمن في مصارحة الشارع بشأن الدعم، حيث تتعامل مع الأمر من منظور تجاري، ما خلف تداعيات سلبية يصعب محوها، وتروّج حججا فضفاضة، حيث أعلن وزير التموين أن زيادة أسعار السلع التموينية ترمي إلى حماية حقوق البسطاء.

علي المصيلحي: زيادة أسعار السلع التموينية المدعمة أمر حتمي
علي المصيلحي: زيادة أسعار السلع التموينية المدعمة أمر حتمي

ويؤكد هؤلاء المراقبون أن الحكومة مهما كانت محقة في تخفيف فاتورة الدعم، فإنها تقرر ذلك بالقليل من الحنكة ولا تقدم مبررات مقنعة، ما يسبب لها المزيد من غضب المصريين، والذي قد تترتب عليه عواقب سياسية في علاقتها بالشارع، لأنها تختار التوقيت الخطأ في التطبيق ولا تترك للناس الوقت لتدبير احتياجاتهم.

وقال طلعت خليل أمين عام حزب المحافظين، وهو أحد مقرري المحور الاقتصادي في الحوار الوطني، إن الحكومة مخطئة في مساومة الناس على الأمن والاستقرار بزيادة الأعباء عليهم، وهذه مجازفة، فالظروف الراهنة لا تسمح بأعباء جديدة.

ولفت في تصريح لـ “العرب” إلى “أن تعويل الحكومة على استمرار حالة الاستقرار الشعبي ورفع المواطنين للراية البيضاء في مواجهة الغلاء يحمل مخاطر، فالاستقرار الذي تحتمي به الحكومة ربما يهتز لأن الأعباء فاقت تحمل قطاع كبير من المصريين”.

وإذا تمكنت الحكومة من تجاوز ردة الفعل السلبية هذه المرة من الصعب توقع تأثير الزيادات التراكمية، وفي هذه الحالة قد لا يكون تغيير بعض الوجوه في تركيبتها أو الإطاحة بقوامها كله كافييْن لاستمرار الاستقرار الذي يجاهد الرئيس السيسي لتكريسه.

ومن المستبعد أن يصمد البسطاء كثيرا أمام الزيادة الجديدة في أسعار بعض السلع الإستراتيجية، لكن الأزمة الأكبر عند الحكومة تتعلق بعدم فهمهما التركيبة الشعبية، وتبدو أحيانا مقتنعة بأن عدم خروج الناس في احتجاجات ضد الغلاء يعبر عن القبول بخطواتها، وهذا توصيف غير دقيق للحالة التي عليها الشارع.

ولم يكن تملص أي حكومة مصرية من مسؤولياتها تجاه المستفيدين من الدعم تدريجيا بالأمر السهل، فقد ظل تاريخيا مجازفة محفوفة بالمخاطر، وقد يؤدي إلى مواجهة مع أسر ينقذها الدعم من دوامة الفقر.

1