الحكومة المصرية تنقلب على القطاع الخاص مع استمرار ارتفاع الأسعار

لم تنعكس الصفقات الاستثمارية التي أبرمتها مصر مؤخرا، وما جلبته من موارد دولارية وانخفاض في قيمة الدولار بعد تحرير سعر العملة المحلية، بشكل ملموس على المواطن المصري الذي لا يزال يعاني من ارتفاع مشط في الأسعار دفع الحكومة إلى تصعيد خطابها ضد ما يطلق عليهم بـ”أباطرة السوق”.
القاهرة - رفعت الحكومة المصرية النبرة مع القطاع الخاص، من تجار ومستوردين وموزعين، وألزمتهم بالأمر المباشر أن يتخذوا قرارا بخفض أسعار السلع قبيل نهاية الأسبوع الجاري، وإلا ستقوم الحكومة باتباع إجراءات قاسية لضبط السوق، وهي لهجة تهديد حادة مدعومة بتوجيهات رئاسية.
وعقد رئيس الحكومة مصطفى مدبولي اجتماعا حضره 70 في المئة من التجار والمستوردين الذين يمثلون القطاع الخاص، وتحدث إليهم بطريقة تشير إلى أن الدولة لم يعد لديها المزيد من الصبر أو الصمت على استمرار رفع الأسعار من دون مبررات، خاصة بعد ارتفاع نسبي في قيمة الجنيه أمام الدولار.
وقال مدبولي “عندما ارتفعت قيمة الدولار حاول التجار تحقيق مكاسب، وحينما انخفضت حاولوا أيضا تحقيق مكاسب دون مراعاة للمواطن، وهذا لا يمكن أن تسمح به الدولة، ولذلك سيكون لزاما خفض الأسعار بنسبة 20 في المئة خلال ساعات، و30 في المئة بعد عيد الفطر مباشرة”.
وتبرر الحكومة لهجتها التصعيدية مع التجار والمستوردين والموزعين للسلع بأن المواطن لا يشعر بإيجابية لعوائد الصفقات الاستثمارية التي أبرمت مؤخرا، وما جلبته من موارد دولارية وانخفاض قيمة الدولار بنحو 40 في المئة بعد تحرير سعر العملة المحلية.
ويدعم الرئيس عبدالفتاح السيسي توجه الحكومة للتشدد مع التجار، وتبني إجراءات صارمة ضد كل من يسعى لاستغلال الأزمة لتحقيق مكاسب على حساب صورة الدولة وجيب المواطن، ووصل الأمر من جانب البعض حد ابتزاز النظام علانية.
واستنكر الرئيس السيسي قبل أيام جشع شريحة من كبار التجار، ملمحا لعودة الدولة إلى سياسة الاحتكار، والتحكم في سوق السلع، وأن يعمل القطاع الخاص تحت مظلتها إذا كان هذا هو الحل لأزمة خفض الأسعار، قائلا: “ممكن نعيد الاحتكار من جديد”.
وصدرت تكليفات للحكومة بأن تتولى الدولة مسؤولية توفير مخزون من السلع الإستراتيجية وتتولى جهات رسمية استيرادها وبيعها للناس، ما برره مدبولي، بأن “الدولة لا تعمل ضد القطاع الخاص، لكنها مضطرة للتدخل وضبط الأسواق”.
وقالت مصادر مطلعة لـ”العرب” إن الحكومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام إصرار أباطرة السوق وضعها في مواجهة الشارع، وقد تقوم بحرمان كبار التجار والمستوردين من الحصول على عملات أجنبية من البنوك لاستيراد السلع.
وأضافت المصادر ذاتها أن ما يحدث من بعض أباطرة السوق “شبه متعمد لتحقيق مكاسب خيالية، باعتبار أن الدولة ستكون منشغلة بتغييرات سياسية، وأن الرئيس السيسي سيؤدي اليمين الدستورية لفترة رئاسية جديدة مطلع أبريل المقبل، وتعقبها مباشرة تغييرات في وزراء الحكومة والمحافظين والقيادات المحلية.
وبلغ حد انقلاب الحكومة على كبار التجار والمستوردين أن مدبولي كلّف المؤسسات المالية والرقابية بالتحفظ على بضائع وسلع في الموانئ بقيمة 1.7 مليار دولار، استوردها مستثمرون ووفرت لهم الحكومة مخصصات دولارية للإفراج عنها من الموانئ، لكنهم تعمدوا التأخير في استلامها انتظارا لانخفاض جديد في سعر الدولار، واختفاء السلع من الأسواق، ما يجلب مكاسب مالية مضاعفة.
توقع مراقبون أن يكون غضب أجهزة الدولة من القطاع الخاص المعني بالسلع مقدمة لإجراءات قاسية، فهناك تهديد واضح للأمن المجتمعي، وتغذيةللقلق بالشارع في توقيت سياسي بالغ الحساسية، لا يسمح بوجود مراكز قوى تتحدى سياسات الدولة.
ويعتقد هؤلاء المراقبون أن التصعيد الرئاسي والحكومي ضد أباطرة السوق قد يؤدي إلى إطلاق يد الأجهزة الأمنية بقوة لمواجهة الاحتكار والتربح، في ظل شعور متصاعد بأن غضب المواطنين مصدره الوحيد، ملف الغلاء.
وصادق الرئيس السيسي مؤخرا على قانون يتيح الاستعانة بالجيش في ضبط الأسواق ومواجهة الجرائم التي تضر باحتياجات المواطنين من السلع الأساسية، لكن الحكومة لم تطبق نصوصه بعد، على أمل أن تصل مع كبار تجار السوق إلى نقطة تلاقي.
وتسبب كبار تجار السوق في أن تظهر الحكومة أمام الشارع كأنها تروج أوهاما حول تحسن الوضع الاقتصادي وتوافر عوائد دولارية ضخمة تقود لانخفاض في الأسعار، فالرأي العام لا يقيس التحسن بخطابات المسؤولين، لكن بانخفاض قيمة السلع.
وإذا بقيت الأسعار مرتفعة وبلا انخفاض يتناسب مع ما تروج له الحكومة وإعلامها من أرقام ونسب إيجابية، فلا قيمة لأي تحرك حكومي، وهو ما يفسر الانقلاب على التجار والمستوردين الذين أثبتوا أن الغلاء الأخير مقصود.
◙ تخلي الحكومة عن خطابها السلبي في مواجهة انفلات السوق يرتبط بشعورها بزيادة منسوب الخطر من ترك الشارع يئن من الغلاء
ونجحت الحكومة في فرض سعر رسمي للعملات الأجنبية في البنوك ومتاجر الصرافة الرسمية، وترنحت السوق الموازيةولم يعد لها تأثير على أسعار السلع، ما يعني أن معدلات الغلاء كان يجب أن تنخفض تدريجيا.
وقال البرلماني السابق وأستاذ العلوم السياسية بجامعة السويس شرق القاهرة جمال زهران إن استمرار الغلاء يدحض أي خطاب عن تحسن الأوضاع الاقتصادية، وهذا في حد ذاته “خطر سياسي”، لأن شريحة من المواطنين تشعر بوجود فجوة بين الواقع وما تسوق له الحكومة من إيجابيات.
وأوضح زهران في تصريحات لـ”العرب” أن مشكلة الحكومة أنها تتحرك متأخرة في ملفات شعبوية، والمعضلة الأكبر عندما تكون لديها حلول ولا تستغلها مبكرا، كأن تطلق يد الأجهزة الرقابية في الأسواق بصرامة، ولا يجب الرهان على استمرار صمت الناس.
ويرتبط تخلي الحكومة عن خطابها السلبي في مواجهة انفلات السوق بشعورها بزيادة منسوب الخطر من ترك الشارع يئن من الغلاء ويسيطر عليه شعور بعجز أجهزتها عن ضبط الأمور، ويمثل استمرار هذه الحالة تهديداجديدا للأمن القومي.
وبلغ امتعاض الرئيس السيسي مداه من استمرار التضخم وارتفاع الأسعار، حيث يعترف في كل مناسبة بأن الخطر على مصر من الداخل وليس الخارج، وتأكيده حتمية إيجاد حل حاسم للجشع كمدخل لإحساس الناس بالأمل.
وتسيطر على المصريين حالة من القلق مع إخفاق الحكومة في الحد من تبعات الأزمة الاقتصادية وتركهم يواجهون وحدهم الغلاء وانفلات السوق بلا تدخل من الجهات الحكومية المنوط بها الضبط، حتى بدأت مظلة الحماية الاجتماعية والمساعدات التي تقدمها الدولة للبسطاء تتآكل، على الرغم من أنها تنفق عليها مبالغ مالية ضخمة، ما جعل دوائر رسمية تشعر بأن الغلاء المتعمد يستهدف إحراج السلطات أكثر من البحث عن مضاعفة الربح، بعد أن فشلت محاولات تأليب الناس بطرق أخرى.