الحكومة المصرية تفرض العصرنة على الأزهر

القاهرة– فرضت الحكومة المصرية العصرنة على الأزهر، بعد الموافقة البرلمانية على مشروع قانون يُلزم المؤسسات التعليمية الأزهرية بتنفيذ سياسة الدولة تجاه منظومة التعليم، وعدم التغريد خارج السرب، عقب إنشاء مجلس أعلى للتعليم في مصر يتبع رئيس الجمهورية، وتسري قراراته على الجميع دون استثناء.
ومررت لجنة التعليم بمجلس النواب الثلاثاء مشروع قانون المجلس الأعلى للتعليم الذي سبق وأقره الحوار الوطني، ورفعه إلى الحكومة التي قدمته إلى البرلمان، ليصبح مسار التحديث والعصرنة داخل مؤسسة الأزهر بسياسة الأمر الواقع، بعد عقود من إقراره منظومة تعليمية خاصة به، ولا تتدخل فيها الحكومة.
وتعتقد دوائر سياسية في القاهرة أن الأزهر لم يعد أمامه سوى القبول بالالتزام الحكومي عليه في شأن التماهي مع العصرنة ووضع حد للجمود الذي يعتري مؤسساته، وإلا وجد نفسه في مواجهة مع الرئيس عبدالفتاح السيسي شخصيا، كونه يتعامل مع إنشاء مجلس أعلى للتعليم كأولوية سياسية مرتبطة بالأمن القومي.
وتضمّن مشروع القانون نصا صريحا يقضي بأن يلتزم المجلس الأعلى للأزهر، وغيره من المجالس التعليمية للمدارس والجامعات، بتنفيذ السياسات العامة التي يضعها المجلس الأعلى للتعليم، مع تقديم تقارير نصف سنوية توضح آليات التنفيذ على الأرض، على أن تكون تلك السياسة معبّرة عن رؤية الدولة وتوجهاتها الحكومية.
ويضم المجلس تسعة وزراء، بينهم وزيرا الدفاع والداخلية، في رسالة حاسمة وصارمة من النظام بأنه لن يقبل التهاون أو التخاذل عن تنفيذ رؤية الدولة بملف التعليم، وأنه يتم التعاطي معه كقضية أمنية وسياسية وجزء أصيل من متطلبات الاستقرار، ما يفرض على كل المؤسسات الالتزام بما سيُقرر.
وعانت الحكومة المصرية كثيرا من أجل إقناع الأزهر وقياداته بالتماهي مع خطط تطوير التعليم وعصرنة المناهج وطرق التدريس وتحديث الخطاب التعليمي وتطهير مؤسساته من العناصر المتطرفة، لكنه تمسك بالسير في طريق معاكس كي يستقطب الشريحة التي تميل إلى التقليدية وتُعادي العصرنة بكل ملامحها وتفاصيلها.
ورغم أن الأزهر كان يرسم نظامه التعليمي وفق رؤية ضيقة لقياداته الدينية، لكن الحكومة وحدها من دفعت تكلفة ذلك من رصيدها، حيث بدت عاجزة عن التدخل لتصويب مسار التعليم الأزهري ما خلق تشوهات فكرية وثقافية في المجتمع، لها تداعيات اجتماعية وسياسية وأمنية خطيرة.
وتوحي الرؤية المعلنة من جانب النظام المصري بأنه لم يعد يتحمل المزيد من تعامل الأزهر كدولة داخل الدولة، لمجرد الحفاظ على نفوذه وشعبيته عند أنصاره، ويبدو كمعارض لتوجهات الحكومة في ملف حساس مثل التعليم، يمسّ صميم حياة الأغلبية السكانية، ويصر على رفض أيّ وصاية من السلطة.
ويتعاطى الأزهر مع نظامه التعليمي على أنه شأن يخصه، ولا يحق لأيّ جهة داخل الدولة أن تُملي عليه ما يجب فعله، بما يتعارض مع رؤية الحكومة لتكريس العصرنة والانفتاح على الثقافات المختلفة، وتجهيز الخريجين لسوق العمل في المستقبل، دون النظر إلى الماضي أو الحاضر، كجزء من إستراتيجية بناء الإنسان المصري.
وترتب عن تباين الرؤي والتوجهات بين النظام والأزهر أن أصبح في مصر مجتمعان تعليميان، الأول يتعامل وفق منظومة معاصرة ومناهج وضعتها مؤسسات عالمية، والثاني منفصل فكريا وثقافيا وتأهيليا ومعرفيا، ومنغلق على نفسه ويتم التعليم فيه وفق طقوس الماضي والتراث الديني.
وما بين المجتمعين، تجد الحكومة نفسها في مواجهة محتدمة مع الشارع لأنها أخفقت في وضع سياسة عامة للدولة، لا يكون فيها تمييز أو تخبط في الرؤى والأهداف، بين ما هو تعليم عام عصري، وآخر ديني متيبس، وبالقرب منهما جملة من التحديات جلبت منغصات سياسية تعجز الحكومة عن حلها.
الرئيس السيسي يدرك التبعات السلبية للخلاف مع الأزهر على وقع تعاظم الأزمات الداخلية والخارجية التي تفرض التعامل بحنكة سياسية
ودعّم الرئيس السيسي إنشاء مجلس أعلى للتعليم تحت ولايته الشخصية، على أمل إعادة تجييش الرأي العام من خلال إقرار سياسة موحدة، في المدارس العامة والمعاهد الأزهرية والجامعات الحكومية والخاصة، بدلا من التخبط الذي قاد إلى معارضة مجتمعية يتعالى صوتها وترفض التلاعب بأولادها.
وتواجه الحكومة غضبا شعبيا واسعا، لأنها لم تحقق المرجوّ بالنسبة إلى الأغلبية الشعبية في إقرار منظومة تعليمية تليق بمصر، ما قد يدفعها للدخول في صدام مع أيّ جهة، ولو كان الأزهر، طالما أنها وحدها من ستدفع الثمن سياسيا واجتماعيا، في ظل وجود إحساس شبه عام بأن نتيجة تطوير المنظومة، لا تزال صفرا.
ويمكن بسهولة اكتشاف ذلك الخطر، حيث يحتل التعليم المرتبة الأولى من حيث الملفات التي يثار ضدها الغضب من الناس، ولم تستطع الحكومة تقليل الفجوة فيه بينها وبين المواطنين، مع أن الشارع يقيس خطواتها نحو إصلاح التعليم بمجالات أخرى، مثل الاقتصاد والتنمية والقطاعات الخدمية المختلفة.
وقالت الباحثة والخبيرة في الشؤون التربوية بثينة عبدالرؤوف رمضان إن مصر في حاجة إلى أن يكون لها نظام تعليمي واحد، لأن استمرار وجود تعليم ديني وآخر مدني يوسع الفوارق الاجتماعية، وتبعية المجلس لمؤسسة الرئاسة يسرّع وتيرة التنفيذ والتطبيق والعصرنة ومواجهة التحديات المالية والتشريعية.
وأضافت لـ”العرب” أن المطلوب من كل المؤسسات أن تتعامل مع وجود مجلس أعلى للتعليم بفكر عصري لا مجرد كيان بلا أهداف، ولا بديل عن تعامل المؤسسة الدينية مع الأمر بقدر من المرونة وفق متطلبات العقل والمنطق واحتياجات المستقبل، لا التعاطي مع العصرنة بحسابات الربح والخسارة، أو الاستقلالية المطلقة.
واستقر النظام المصري على أن يتعامل مع التعليم كإستراتيجية دولة، لا مع أشخاص ولا مؤسسات، وهي إشكالية بالنسبة إلى الأزهر الذي يُمانع أيّ تدخل حكومي في رؤيته وأهدافه ويراها نوعا من الوصاية، وتهديدا لمكانته الاجتماعية، طالما أنها تحاول أن تفرض عليه ما لا يتسق مع نفوذه، ولو كانت وراء تلك الوصاية مبررات منطقية.
ويدرك الرئيس السيسي التبعات السلبية للخلاف مع الأزهر على وقع تعاظم الأزمات الداخلية والخارجية التي تفرض التعامل بحنكة سياسية، لكنه في الوقت ذاته لن يقبل أن يتعنت الأزهر في ملف شديد الحساسية له تبعات اجتماعية وأمنية وسياسية وفكرية.