الحكومة المصرية تسير عكس اتجاه التقشف

القاهرة - أعادت الحكومة المصرية تمسكها بوضع المشروعات القومية ضمن خارطة الأولويات خلال المرحلة المقبلة، رغم دعوة رئيسها مصطفى مدبولي جميع المؤسسات للتقشف وترشيد الإنفاق إلى الحد الأدنى جراء الأزمة الاقتصادية الحادة، وعدم البدء في مشروع يحمل مكونا دولاريا وعدم إرهاق موازنة الدولة بأعباء إضافية.
وقررت الحكومة تطوير منطقة الأهرامات التاريخية ضمن مشروع عملاق، ووافقت على مخطط تطوير الواجهة السياحية لمدينة العلمين الجديدة، مع زيادة مشروعات النقل الذكي، بما يشمله من طرقات وقطارات، وتطوير الواجهة البصرية للطريق الدائري الذي يربط بين محافظات القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية).
وحمل التوجه استفزازا للشارع كون المشروعات التي تعمل الحكومة على إطلاقها أو استمرارها بمبالغ مالية طائلة تتناقض مع الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية للمواطنين في ظل ارتفاعات غير مسبوقة للأسعار، واختفاء بعض السلع الضرورية من الأسواق، وسط تجاهل حكومي للمعالجة وغياب الحلول الناجزة لها.
وتعتقد دوائر سياسية في القاهرة أن إجراءات الحكومة للتعامل مع أزمة الغلاء واتساع دائرة الفقر مقابل التمادي في الإنفاق على مشروعات كبرى تحرج النظام المصري الذي يولي أهمية كبيرة لتكريس الأمان الاجتماعي والسياسي خوفا من حدوث مشكلات تفجر غضب فئات متضررة من زيادة الأسعار، وما يحمله من تداعيات.
وبدت الحكومة كأنها تسير عكس اتجاه قراراتها، ما أثار غضب بعض المصريين الذين تطالبهم دائما بالصبر وتحمل الأزمات وتبنّي إجراءات تقشفية، في حين يتم إنفاق مبالغ مالية ضخمة على قطاعات ترفيهية في نظرهم ويمكن تأجيلها إلى حين عبور الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة، وهي إشكالية توحي بالتضارب في أولويات الحكومة.
وتدافع بعض الأصوات عن الحكومة وترى أن رؤيتها منطقية بضرورة الاستمرار في المشروعات التي بدأتها لأنها وقعت عقودا استثمارية لتنفيذها، ويصعب التراجع عنها أو التحجج بالظروف الاقتصادية والمعيشية للمواطنين، حيث اتفقت على خطط القروض والاستدانة المرتبطة بها، وحال توقفها تصبح ملزمة بسدادها وفوائدها.
ويؤيد معارضون للإنفاق الحكومي على المشروعات وقت الأزمة الاقتصادية شريطة أن يتم توجيه جزء معقول من المخصصات المالية والقروض إلى ملفات تنموية تمس صميم احتياجات الناس، فالمواطن يرفض أن تقترض الحكومة لزيادة الرواتب، لكن يمكن زيادة المشروعات التي تجلب عوائد مباشرة على المواطنين وقت الأزمات.
وتثار أزمة المشروعات التنموية مع كل مشكلة مرتبطة بسلعة إستراتيجية، سواء ارتفع سعرها أو اختفت من الأسواق، وهو ما حدث مع وصول أسعار السكر إلى مستويات قياسية بعد أن أصبح الكيلو الواحد يباع بخمسين جنيها، وهو نفس سعر الدولار مقابل الجنيه في السوق السوداء تقريبا، وسط صمت حكومي غير مبرر.
وأعلنت الحكومة قبل أيام اتخاذ إجراءات هدفها السيطرة على التضخم والحد من ارتفاع أسعار السلع الغذائية وتم إطلاق مبادرة موسعة لخفض أسعار سبع سلع أساسية بنسب تتراوح من 15 إلى 25 في المئة، لكن خطواتها لم تحقق المرجو منها في مسألة خفض الأسعار، بل إن سلعا مهمة قفزت أسعارها.
ولا تجد شريحة تعاني من ارتفاع الأسعار تفسيرات مقنعة لإصرار الحكومة على المضي في الإنفاق على مشروعات تفتقر إلى العائد المباشر للناس، وتدخل في باب تحسين الصورة الجمالية، بينما الحكومة ترفض توجيه مخصصات مماثلة لرفع العبء عن المواطنين أو السعي الحثيث لضبط ارتفاع الأسعار في الأسواق.
وتتعرض الحكومة على فترات متقاربة لانتقادات حادة دون أن تتراجع أو تعطي مبررات لتوجهاتها الاقتصادية تتناسب مع دعوتها إلى التقشف، حيث تصر على مواصلة العمل في مشروعات وتعلن عن أخرى جديدة بحجة التطوير ولا تنظر بجدية إلى ترتيب الأولويات التي تتوافق مع طبيعة الأزمة الراهنة، وتكتفي بإطلاق مبادرات لا تجلب مكاسب مجتمعية وسياسية مباشرة.
ويقول مراقبون إن الإصرار على المضي في الشق التنموي وتجاهل تنفيذ دعوات التقشف هو محاولة من الحكومة لإنكار الواقع وتقديم صورة مغايرة للناس بأن الأوضاع الاقتصادية ليست بالسوء الذي يرونه، وهو توجه يرى معارضون أنه يعكس مدى ابتعاد بعض المؤسسات الرسمية عن الشارع، حيث لا تعترف بالحقيقة التي يدركها مواطنون يشاهدون يوميا تأزم الوضع المعيشي.
الحكومة المصرية تتخذ إجراءات هدفها السيطرة على التضخم والحد من ارتفاع أسعار السلع الغذائية وتم إطلاق مبادرة موسعة لخفض أسعار سبع سلع أساسية
وأكد سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة أن الحكومة تعاني من تناقضات تجعل خطابها للشارع غير مقنع، فهي تتحدث عن ترشيد ثم تطلق مشروعات عوائدها بعيدة المدى، مع أن الأزمة تستدعي التركيز كثيرا على مظلة الحماية الاجتماعية بالتزامن مع المشروعات ذات العائد قصير المدى.
وذكر صادق في تصريح لـ”العرب” أن أزمة انفلات الأسعار في مصر لا يتم التعامل معها بجدية، مع أنها تحتاج إلى حلول مستدامة وخالية من الأهداف السياسية، وهذا يتطلب خطة اقتصادية – اجتماعية عملية وليست لمجرد الاستهلاك المحلي، والمشكلة أن فئات في الشارع المصري بات ينتابها شعور قوي بأن الحكومة تركز على المشروعات والاستثمارات أكثر من تركيزها مع معاناة الناس.
وبغض النظر عن مدى صوابية رؤية الحكومة إزاء المضي في مشروعات قومية، لكنها تتحمل الجزء الأكبر من الرفض الشعبي لتوجهاتها الاقتصادية، حيث لا تشرح خططها أو تسعى إلى تجييش الناس خلفها لتكون هناك شراكة بين الطرفين حول هدف واحد، كما أخفقت في غلق ثغرة الغضب المرتبط بغلاء السلع لتتفرغ للتنمية دون منغصات.
وتدعم شريحة كبيرة من المصريين استمرار مشروعات التنمية، لكن الحكومة تتعامل مع بعضها بشكل يشير إلى تخبط في شرح وتفسير رؤيتها، ولا تقدم على المضي في مسارات متوازنة، اقتصاديا وخدميا، وتختار التحرك في طريق يخدم توجهاتها الذاتية التي لا تُرضي الشريحة الأكبر، ما قد يجلب تداعيات سياسية قبيل إجراء انتخابات الرئاسة المصرية في ديسمبر المقبل.
وتعاني الحكومة من معضلة أكثر تعقيدا ترتبط بغياب الحنكة السياسية أحيانا في التعامل مع الشارع وقت الأزمات، ما يجعلها متهمة بالعناد وفرض الأمر الواقع على الناس، وهو أسلوب يرى كثيرون أنه يعبر عن أداء سياسي ضعيف لا يتناسب مع التحديات.