الحزن وشفاؤه في رسالة فيلسوف العرب الكندي

الحزن نوعان، الأول يحدث بسبب فعل نقوم به ويتوقف على إرادتنا، والثاني ينشأ عن عمل يقوم به الغير.
الأحد 2023/05/21
كل ألم لا يعرف سببه لا يرجى شفاؤه (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي)

تنظر هذه الأيام في وجه المواطن العربي في العديد من الدول العربية؛ سوريا، العراق، لبنان، فلسطين، مصر، السودان، تونس، ليبيا، الجزائر واليمن -الذي كان سعيدا- فتجد في عينيه حزنا لا يكفي قرن من البكاء لمحو آثاره، هذا الحزن يظهر جليا في تفاصيل حياته اليومية، وكأنه الحزن الذي قال فيه الثائر الأرجنتيني المشهور أرنستو تشي غيفارا “كنت أتصور أن يكون الحزن صديقا، لكنني لم أكن أتصور أن يكون وطنا نسكنه، ونتكلم لغته، ونحمل جنسيته”.

تحول الحزن إلى هوية. وكتب شاعر كردستان شيركو بيكه سه قصيدة يقيس بها أحزان الإنسان، فقال “جاء التاريخ وقاس قامته بقامة أحزانك، كانت أحزانك أطول”. أما من علاج لهذا الحزن الإنساني المقيم يا أبا يوسف الكندي؟

خرجت حزينا من مدينتي الخضراء في الشمال الغربي من سوريا، وهي ملعب أهلي وناسي، في رحلة رحيل شاقة إلى مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة، التي تطل على جيراننا الإغريق في اليونان الحديثة، هاربا من حرب ضروس أحرقت البشر والشجر والحجر. نحن الآن في مدينة أخرى، علقنا أحلامنا على مشاجبها، وتركنا بسقوف بيوتنا، بصلا، وبامية، ورمانا، وتينا يابسا، وثوما للشتاء، تركنا حليبا في أضرع أبقارنا، وتركنا رف حمامنا المنزلي بلا ماء، وتركنا الطائرات الحربية تحلق في الأجواء، وأعطينا لزغب القطا طوق النجاة، ثم عبرنا جسر الموت إلى الحياة.

◙ الكندي لا يفوت أن يذكّر الإنسان أيضا بأن الحماية من حدوث الأشياء المحزنة تتم عن طريق العيش وفق تمام طبيعته

بأي أسلحة تصد أرواحنا الحزينة التائهة حنينا إلى ديار تركناها معلقة على حبل الغسيل في عصف الريح؟ بأي أسلحة نكبت الشوق إلى خبز تنور أمهاتنا؟ من يلم غسيلا، تركناه أشباحا معلقة على الحبال في صحن الدار؟ نحن لم نذهب بعيدا ولم نصل؛ لأن قلوبنا حبات لوز مضرجة في أزقة حارات شعبية منسية مهدمة، وكلما قلنا وصلنا إلى آخر الدرب الطويل خر أولنا. أيها البطل ابتعد عنا قليلا نحو نهاية أخرى، أيها البطل المضرج فينا من شظايا صواريخ قصف الطائرات، أقول: لا تحزن يا صاحبي. بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه/ وأيقن أننا لاحقين بقيصر، فقلت له: لا تبك عينك إنما/ نحاول ملكا أو نموت فنعذرا. قل لنا يا بحر إيجة كم مرة ستكون غربتنا البداية والنهاية؟ وهل سيدوم الحزن فينا إلى آخر الدرب الطويل؟

كنت في ركني الحميم في منزلي أكتب عن أبي يوسف الكندي من خلال رسالة طريفة سماها “في الحيلة لدفع الأحزان” وأبويوسف يعقوب بن إسحاق الكندي لقبه “فيلسوف العرب” وهو لقب قديم، يذكره ابن النديم في “الفهرست”. في هذه الرسالة التي وجهها إلى صديق طلب منه أن يضع رسالة في دفع الأحزان يبدأ الكندي بأن يبين أن كل ألم لا يعرف سببه لا يرجى شفاؤه. وينبغي بيان سبب الحزن. ولهذا يعرف الحزن بأنه ألم نفساني ناتج عن فقد أشياء محبوبة أو عن عدم تحقيق رغبات مطلوبة. فلننظر هل يمكن لإنسان من الناس التخلص من هذين السببين؟

يقسم الكندي في بحثه هذه المحبوبات والمطلوبات إلى حسية وعقلية: فالأولى مصيرها الزوال، ومن ثم يحزن الإنسان لفسادها وزوالها ويشعر بالآلام. أما الثانية فهي دائمة وثابتة لا تتعرض لفقد أو فوات. ولذلك فمن كان يريد أن يرى سعيدا ويطرح عن نفسه آلام الحزن، فيجب عليه أن يروم محبوباته ومطلوباته في العالم العقلي لا العالم الحسي.

ويقول الكندي “فإن أحببنا ألا نفقد محبوباتنا، ولا تفوتنا طلباتنا، فينبغي أن نشاهد العالم العقلي، وتصير محبوبتنا وقنياتنا – أي ممتلكاتنا – وإرادتنا منه. فإنا إذا فعلنا ذلك أمنا أن يغصبنا قنياتنا أحد، أو تملكها علينا يد، وأن نعدم ما أحببنا منها؛ إذ لا تنالها الآفات، ولا يلحقها الممات. ويرى أن الإنسان معرض دائما لفقد محبوب، وفوات مطلوب مرغوب فيه، فإن هو حزن لذلك فإنه سوف يكون دائم الحزن. لذلك فإنه ينبغي ألا نحزن على الفائتات، ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة، راضية بكل حال، لنكون مسرورين أبدا”.

وهنا توقف القلم عن الكلام المباح وخرجت من دياري وانصرفت عنها كما قيل في المثل “مكره أخوك لا بطل”. توقفت الكتابة في هذه المقال بسبب بقاء رسالة الكندي في مكتبتي الورقية في منزلي البعيد. وبالمصادفة اهتديت إلى مقال عن رسالة الكندي المنسية تلك، كتبه الدكتور المغربي عبدالله رمضاني في العدد 506 الصادر يوم السبت 10 نوفمبر 2018 من “المجلة العربية”. فرحت بالمقال فرح الطفل بالعيد؛ لأنه أعاد إلي ما فقدت وحزنت من أجله. وها أنا أكمل مقالي مستطيعا بغيري كما كان يفعل فيلسوف المعرة رهين المحبسين نزيل معرة النعمان. وأنا رهين الغربة أصدح مع أسطورة الغناء اللبنانية فيروز: “يا جبل اللي بعيد خلفك حبايبنا”.

انطلق الكندي في رسم علاج الحزن من مسلمة أساسية هي: كل ألم لا يعرف سببه لا يرجى علاجه، ولهذا، حسب رأيه، ينبغي تبيان سبب الحزن ليمكن وصف علاجه. ومن الأساليب التي يعتمدها الكندي لدفع الحزن أن نفكر في الحزن ونقسمه إلى نوعين:

◙ الموت ليس شرا، وإنما الشر هو الخوف من الموت؛ لأن الموت تمام لطبيعتنا، ودون الموت لن يوجد إنسان أبدا

الأول: يحدث بسبب فعل نقوم به، ويتوقف أمره على إرادتنا. والثاني: ينشأ عن عمل يقوم به الغير، ويتوقف أمره على إرادته. النوع الأول من الحزن يمكن التخلص منه؛ لأننا نستطيع أن نجنب أنفسنا السبب في هذا الحزن ونزهد فيه. وأما ما يصدر بسبب غيرنا فيجب علينا ألا نحزن قبل وقوع هذا الفعل. وفي حالة حدوث هذا الفعل، وكان سببا في حزننا، فينبغي علينا أن نجتهد في الحيلة للتلطف لتقصير مدة الحزن. فإننا إن قصرنا في ذلك كنا مقصرين في مهمة دفع البلاء الذي يمكننا دفعه، ومن ثم فمن يحزن يؤذ نفسه، ومن يؤذ نفسه يكن شقيا ظالما.

من الأساليب التي يقترحها الكندي للتخلص من الحزن، عملية استذكار الأسباب التي كانت وراء حزننا وحزن غيرنا، فهي – استذكار الأسباب – وسيلة فعالة تمدنا بقوة عظيمة للسلوة من الأحزان. وبهذه المناسبة يستدل الكندي برسالة بعث بها الإسكندر المقدوني إلى أمه يعزيها وهو على فراش الموت. مفادها أنه طلب منها ألا تحزن؛ لأن كل شيء في الدنيا زائل، وأنه إذا مات فلتجمع الناس على طعام وشراب، وليصرخ الصارخ ألا يحضر كل من أصابته مصيبة فلم يحضر أحد.

وربط الكندي بين الحزن والملكية؛ لأنهم قالوا: المالك للشيء مملوك له، ومن أراد الحرية فليخرج من ملكوت الرغبة، لذلك يرى أن علينا ألا نملك شيئا زائدا عن الحاجة حتى لا نفقده فيكون فقدانه سببا للحزن.

وفي هذا السياق يذكر الكندي لصديقه حكاية نيرون الذي أهدي كرة من البلور عجيبة الصنعة، فسرّ بها كثيرا، ومدحها الحاضرون من خاصته، وكان بينهم أحد الفلاسفة، فسأله نيرون عن رأيه في كرة البلور، فأجاب الفيلسوف بأنها تنطوي على مصيبة ستحدث، فقال نيرون: كيف ذلك؟ فقال الفيلسوف: لأنك إن فقدتها، فلا أمل في أن تظفر بمثلها، وعندئذ يتلبسك الحزن.

◙ يعرف الحزن بأنه ألم نفساني ناتج عن فقد أشياء محبوبة أو عن عدم تحقيق رغبات مطلوبة. فلننظر هل يمكن لإنسان من الناس التخلص من هذين السببين؟

يذكّر الكندي الإنسان بأن كل ما يمتلكه وما في حوزته إنما هو لله عز وجل، ويمكن له في أي لحظة شاء أن يسترده منه، ومن ثم فلا يليق بنا أن نحزن ولا نأسى لهذا الاسترداد، بل يجب أن نفرح لكون أنه تعالى استرجع منا الأخس والأقل قسمة وشأنا؛ المتمثل في ركام الدنيا وحطامها الزائل الخارج عنا، ولم يسترد منا ما ننعم به من خيرات نفسانية وهو ما يوجب الفرح لا الحزن. وقد قيل لسقراط: ما بالك لا تحزن؟ فقال: لأني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه.

ولا يفوت الكندي، هنا، أن يذكّر الإنسان أيضا بأن الحماية من حدوث الأشياء المحزنة تتم عن طريق العيش وفق تمام طبيعته، وطلب الحسن من القبح، والإيمان بوجود الخير عند حصول الشر، وطرد الخوف والتسلح بالرجاء، والاعتقاد بإمكانية ظهور الحياة من تجربة الموت. فمثلا نحن نعتقد أنه لا شيء أسوأ من الموت، لكن الموت ليس شرا، وإنما الشر هو الخوف من الموت؛ لأن الموت تمام لطبيعتنا، ودون الموت لن يوجد إنسان أبدا؛ لأنه إن لم يمت لم يكن إنسانا، ولخرج عن طبيعته الإنسانية.

ها أنا أنهي الاقتباس من رسالة الكندي كما لخصه مشكورا الدكتور المغربي عبدالله رمضاني، وأقول في الختام نحن على العموم كنا طيبين وساخرين، لا نعرف الرقص والمزمار إلا في أعراس بناتنا وطهور أولادنا. كنا تعودنا زراعة النعناع في فسحة من حدائق منازلنا، و”كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبدا لأول منزل” وكنا تعلمنا زراعة البنفسج في أغانينا، وفي أحواض قبور موتانا. نحن هنا في الغربة، وهي أمكنة تغير أهلها وزمانها، وهي الوصول إلى السواحل فوق مركبة أضاعت شراعها. يا بحر إيجة، عد بنا يا بحر، نحن الذين أكلنا من خبز أهلك. طلبنا جوارك، فأجرتنا. أتينا إليك لننتصر في معركة الحياة، حياتنا. متى تعيدنا أيها البحر القديم إلى نباح كلابنا في بلاد الشام؟

 والشام شام لكل زمان، أعدنا إلى أحلامنا التي قصفتها الطائرات، ثم تابع أيها البحر القديم مغامرات البحث عما ضاع من زوارقنا، عن أطفال أصبحوا شجرا من المرجان في القيعان. كم كنا نحبك يا بحر إيجة حتى رميت أطفالنا غرقى على رمل سواحلك، والشاهد الشهيد أصغرنا إيلان كردي.

 

◙ ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

9