الحريات الفردية بين سرديات الحداثة وواقع المجتمعات

قضت المحكمة العليا في بريطانيا مؤخرا باعتماد جنس المرأة البيولوجي عند الولادة محددا قانونيا وحيدا لهويتها الجندرية، لتحسم بذلك الجدل القائم بين الجمعيات النسوية والحكومة الأسكتلندية حول حقوق المتحولين جنسيا، وتعيد على المستوى الخاص إلى واجهة النقاش والتفكير إشكالية المنزلة القانونية والاجتماعية لأفراد مجتمع الميم ومآزق إدماجهم في المجتمع الكبير.
وأما على المستوى العام فتحل الحداثة وما أنتجته في خصوص الحريات الفردية بعد هذا الأمر القضائي محل مساءلة حقيقية لاسيما وأنه لا يمكن اعتبار الحدث المذكور حالة معزولة، فتبايُن المواقف من مجتمع الميم وتفاوت نسب تمكين أفراده من حقوقهم واقع في سياسات الدول الأوروبية ناهيك عن المزاج العام.
الوقوف ضد المثلية
تفاجأت دول الاتحاد الأوروبي ومعها العالم منذ ما يقارب السنة باكتساح اليمين نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي. وفي إطار عملها الروتيني قدمت وسائل الإعلام العالمية هذا الحدث بوصفه زلزالا سياسيا ووضعت ملف الهجرة وازدياد المخاوف من تصاعد الخطر الإسلاموي في مرمى الأسباب المفسرة له. وهي في ذلك التوصيف محقة لكنها لا تعطي حقيقة المشهد كاملة إذ من غير المنطقي تفسير حصاد الأحزاب اليمينية هذا التأييد الواسع على خلفية مواقفها المعادية للآخر الخارجي دون مواقفها من سياسات الداخل.
◄ البلاد التونسية نجحت في منعها تعدد الزوجات، فهذا المبدأ مستخرج من روح المجتمع إذ توجد له أسس في الثقافة التونسية وتاريخها
ينطوي اليمين على رؤية اجتماعية تقوم في جزء مهم منها على الميل إلى المحافظة وإعادة الاعتبار للأسرة التقليدية وإعلان العداء لكل ما يهدد كيانها. في هذا الإطار يتنزل رفضه ظواهر من قبيل المثلية والتحول الجنسيين والإجهاض فضلا عن دعواته المبطنة لإعادة حصر دور المرأة ضمن الحدود التقليدية، معلنا بذلك عن سيْره في اتجاه معاكس لمنظومتيْ الحريات الفردية وحقوق المرأة وانسجامه مع منظومة الأعراف وقيم الديانة المسيحية ومبادئها التي تمثل مصدرا من مصادر بنيته الفكرية.
لا شك في استمداد الأحزاب اليمينية شعبيتها من قدرتها على استثمار مخاوف المواطن الأوروبي وترويجها خطابا سياسيا يحاكي شواغله علاوة على تعاملها مع الوضع الراهن تعاملا براغماتيا – واقعيا يقوم في جانب مهم منه على الاعتراف بمواجهة الدول الأوروبية أزمات حقيقية تتراوح بين ما هو سياسي، اقتصادي، اجتماعي وأيضا ثقافي، واستغلال هذه الوضعية لتمرير تصور قديم – متجدد.
قوام هذا التصور الدعوة إلى استعادة السيادة والهوية الوطنيتين ومنهما إعادة الاعتبار للدولة القومية على حساب الانتماء إلى الوحدة الأوروبية والخضوع لمنطق الليبرالية، وهي في بعض وجوهها حلول ممكنة للتنفيس عن الأزمات. لكن ذلك لا ينفي بأي شكل من الأشكال مركزية الدعوات المعادية للأيديولوجيا الجندرية في خطاب هذه الأحزاب ودورها في الحملات الانتخابية بشكل مكنها من استقطاب الناخبين وكسب أصواتهم.

◄ عملية إرساء قيم الحرية والمساواة وحق الآخر في الاختلاف تبدو بهذا المعنى معقدة تستوجب موازنة دقيقة بين التراث والحداثة
ولعل في رفض بعض أعضاء الأحزاب اليمينية من ذوي الميولات المثلية تسييس المسألة الجندرية وفرضها على ثقافة المجتمع مفارقة دالة على العلاقة الطردية بين هذا الطيف السياسي والأيديولوجيا المذكورة، فقد تجاوزت مواقفهم الحازمة في هذا الخصوص المستوى العام إلى آخر أخص، فسجلوا احترازهم على تمكين المثليين من بعض مطالبهم “القصووية” على غرار حقهم في الزواج والسماح لهم بتبني الأطفال، ومثل هذا النموذج كل من أليس فايدل وهولغر أربي من حزب البديل الألماني. غير أنه لا يمكن فهم هذه المواقف خارج إطارها الواقعي إذ لا يمكن إنكار استجابتها لمطالب موجودة بالفعل وتناغمها مع مزاج جزء مهم من الرأي العام.
وأصبح الواقع الأوروبي يشهد انزياحا نحو تغليب مصلحة الأقليات والتشريع لـ”دكتاتوريتها”، ففي قضية الحال تجاوزت المسألة حماية الأقليات الجندرية من استبداد الأغلبية إلى العمل على إشاعة ثقافتها وتسييدها. وعلامات ذلك كثيرة منها تحول قوانين حظر خطاب الكراهية ومناهضة الميز العنصري إلى أداة تقييد حرية التعبير وسيف مسلط على رقاب المحافظين، فلا يمكنهم الإفصاح عن مواقفهم الحقيقية أو رفضهم لهذه الظواهر على المستوى الشخصي خشية اتهامهم بجرائم عنصرية، إضافة إلى استهداف فئات عمرية هشة من جنس الأطفال لاسيما بعد إدراج قضايا الجندر والتربية الجنسية في المقررات المدرسية لبعض الدول الأوروبية.
ولم تكن الأطر المهنية بمعزل عن هذه الوضعية الحرجة، فقد أضحت الحساسية سمة مميزة لعلاقة أرباب الأعمال بمنظوريهم من الأقليات الجندرية، وبات من السهل حمل نقد أداء أحدهم المهني على محمل التجني والميز العنصري فيَصِل الأمر أحيانا إلى التقاضي. ويأتي أداء مجموعة من المثليين للمشهد الفني الشهير في افتتاح أولمبياد باريس 2024 باعتباره أصدق مثال على التوجه الممنهج نحو فرض ثقافة الجندر لا في النطاق الأوروبي فقط بل العالمي أيضا وعدم التردد في استفزاز مشاعر الأغلبية وحتى التصادم معها، وهو ما يكشف عن وجود مشكلة مجتمعية حقيقية جسدها تعبير شخصيات أوروبية ذات مستوى عال عن استيائها من مضامين هذا المشهد.
وقبل ذلك تحولت أوروبا إلى مسرح لتحركات شعبية منددة بهذه الثقافة على غرار تلك المندلعة في فرنسا خلال شهر نوفمبر المنقضي، وقبلها في ألمانيا سنة 2020 وإيطاليا سنة 2018 اعتراضا على برمجة التربية الجنسية في المقررات الدراسية والسعي إلى تقنينها. وانتظمت في سنة 2013 مظاهرات فرنسية معلنة رفضها تقنين زواج المثليين. والملاحظ تمثيل اليمين طرفا مشاركا أو داعما لهذه المناسبات الاحتجاجية دون قدرته الفعلية على تنفيذ وعوده ضد هذه الأقليات بحكم خضوع دول الاتحاد الأوروبي لقوانين موحدة توهم بصلابة منظومة الحقوق والحريات الفردية وعدم مواجهتها إشكاليات تذكر، وهو ما نقضه صعود دونالد ترامب ممثل اليمين في الولايات المتحدة.
لقد أثبت الرئيس الأميركي وفاءه لمواقفه من الأقليات الجندرية واتجه مباشرة إلى تنفيذ وعوده الانتخابية دون تردد، فأصدر مراسيم تقلص هامش حرية المثليين والمتحولين جنسيا وتحدد دورهم في الحياة العامة، مدعوما في ذلك من جهات دينية وشعبية محافظة، فحظر المتحولين جنسيا من أداء الخدمة العسكرية والمشاركة في المسابقات الرياضية، وألغى الاعتراف بالهوية الجندرية.
الواقع العربي
لئن كان للغرب تقاليده في مواجهة أزماته وإدارتها بشكل يمكّنه من تجاوزها دون أضرار، فإن المعني الأصلي بهذه الإشكالية هي الجهات الحقوقية والجمعيات النسوية وجزء من أكاديميي المنطقة العربية، ففي ظل التحولات الراهنة أصبح السؤال عن كيفية تصرفهم مشروعا؛ فهل سيكون الانحناء برهة للعاصفة ومجاراة نسق الأحداث في الغرب خيارهم أم الثبات على مواقفهم ومواصلة المناداة بتطبيق منظومة الحقوق والحريات الفردية كما بلغتنا من مهدها دون نقد أو تعقل؟
والحق أننا في هذه الحال سنكون إزاء مشهد سريالي أساسه استبدال الأدوار، فنصير أكثر حداثة من الغرب، ونقدم له دروسا في كيفية تطبيق منظومة هو منتجها وواضع أسسها النظرية.
لا يمكن إنكار جهود هذه الجهات في دفاعها عن حقوق النساء والأقليات في العالم العربي وفضح الانتهاكات الممارسة ضدهم لكن ذلك لا ينفي محدودية مشروعها إذ فشلت في أن تجد لها موطئ قدم في المنطقة وقبولا شعبيا كاملا.
نقول هذا ونحن نستحضر التجربة التونسية باعتبار ريادتها العربية واستنادها إلى ترسانة قانونية وثقافية تولي أهمية لقيم مدنية الدولة والحرية والمواطنة وتضمن حقوق المرأة. ورغم تحركها في هذا المناخ فشلت النخب الحداثية في الذهاب بعيدا بمنظومة الحريات الفردية ورفعها إلى مستوى تشريعي من خلال المقترح المقدم لرئاسة الجمهورية سنة 2018، وهذا أمر مفهوم إذ لا تنطلق الجهات المذكورة في توليد مبادئها من الواقع العربي ولا تراعي مستوى الوعي المنتشر بل تمارس عليه عملية إسقاط لأفكار مستوردة سيلفظها لا محالة، وهو ما أكده التذمر الشعبي من تقرير الحريات الفردية لاحتوائه دعوة إلى تقنين المساواة التامة في الميراث، وإلغاء تجريم المثلية، في حين كانت مطالب التونسيين اجتماعية واقتصادية بالأساس.
◄ ينطوي اليمين على رؤية اجتماعية تقوم في جزء مهم منها على الميل إلى المحافظة وإعادة الاعتبار للأسرة التقليدية وإعلان العداء لكل ما يهدد كيانها
تبدو عملية إرساء قيم الحرية والمساواة وحق الآخر في الاختلاف بهذا المعنى معقدة تستوجب موازنة دقيقة بين التراث والحداثة وجدلا مستمرا مع الواقع وإلا اتخذت منحى قصوويا وانقلبت مصدرا تتغذى منه التيارات الراديكالية، وهذا ما تنادى به ضميرٌ فردي أحسن تمثلَ الضميرِ الجمعي، فاخْتُزِلَ المخيالُ الجمعي في صوت أبي القاسم الشابي وهو يلبس لبوس قريحة شعرية يخاطب القوم بما يفهمون في عبارة شعرية لطيفة، تصير إرادة الحياة شرطا لاستجابة القدر، فتعيد تشكيل وهندسة التصورات في ضرب من بَنْيَنَةِ الأفكار والمتصورات بما يتماشى والذهنية الموجودة.
وعلى أساس هذه البَنْيَنَة أو الموازنة نجحت البلاد التونسية في منعها تعدد الزوجات، فهذا المبدأ مستخرج من روح المجتمع إذ توجد له أسس في الثقافة التونسية وتاريخها ممثلة في الصداق القيرواني الذي فرضته أروى القيروانية على الخليفة المنصور ثم في مشروع الطاهر الحداد قبل تقنينه زمن الحكم البورقيبي.
وإذا ما أردنا العثور على منطلقات ثقافية أخرى لبث هذه القيم فللتاريخ العربي والإسلامي القدرة على إسعافنا بذلك. فعلى الصعيد المحلي كانت تونس سباقة إلى إلغاء الرق على المستوى العالمي، وإذا ما ولينا وجوهنا قِبَلَ المشرق وجدنا تجربة فقهية فريدة من نوعها تنزع إلى التحرر وتضع الإنسان نصب أعينها، وهي تجربة أبي حنيفة النعمان حليف المعتزلة التاريخي ومعتنق القول بخلق القرآن.
وبعد حوالي ثلاثة قرون من الزمن قدم القاضي عبدالجبار المعتزلي رأيا طريفا يعترف من خلاله بكمال عقل المرأة ويسويها في ذلك بالرجل، وهو الرأي ذاته الذي تبناه ابن رشد في أقصى غرب الدولة الإسلامية وتجاوزه بأشواط إذ دعمه بتصورات فلسفية رائدة لدور المرأة وفاعليتها في المجتمع. ومن شأن التعريف بهذه التجارب وغيرها المساعدة على تهيئة الذهنية العربية ودفعها لقبول قيم الحرية والمساواة وحق الآخر في الاختلاف بدل تقديمها له على وجه الاستيراد والصدمة، فيعدها من المخالفات الشرعية أو ضربا من المؤامرات الغربية على الإسلام.